بقلم:محمد ولد عبد اللطيف
عجبا لأمر هذا الصحفي الاسترالي صاحب الموقع الذي شغل الدنيا هذه الأيام بما سرب من وثائق في غاية الخطورة على جميع المستويات، ثم استمر كأنه لم يفعل.
لقد أدعوا عليه أنه قام بعمليات اغتصاب في بلد محترم في الجانب الشمالي من أوروبا الشمالية، فتنصل من ذلك وتبرأ كل التبرإ، ولكنه لم يتبرأ من عمليات اغتصاب أخرى كان ارتكبها فلم يتنصل منها ولكنه أكدها وادعاها وتحمل وزرها، وهي اغتصاب أسرار دبلوماسية وسياسية كان الله تعالى قد سترها بستره الجميل، فأبرزها هذا الصحفي الجريء للناظرين على النت جهارا نهارا يتفكه بها السامرون وينظر إليها المتفرجون ويعلق عليها الصحفيون، وفيها من خطير الأمور وغريبها ما لم يخطر قط على بال.
قالوا إن هذه الأسرار تعد برقياتها بالآلاف، ولكن هذا الصحفي العنيد أرسلها على خط النت منجمة، كل يوم يرسل منها جرعة كافية لتعذيب حكومات الغرب والشرق ثم يمسك إلى اليوم الموالي ليكون لكل يوم محطة من هذا التمرين الغريب.
وأخطر ما في هذه الأسرار أنها شككت الصديق في صديقه والحليف في حليفه ونشرت أمورا كان العقلاء يعلمونها ولكن الحكمة اقتضت أن يتجاهلوها، فلما أبرزها هذا الصحفي على قارعة الطريق كان في ذلك قمة الإحراج للمستعين به والمستعين إليه.
فقد أفشت تلك البرقيات أسرارا لا يمكن الاعتذار عنها بحال من الأحوال، لأنها إما قذف صارخ أو قدح في شخصية محترمة جدا كانت حتى الآن لا ترقى إليها الشكوك، أو تشكيك في كفاءة كانت الآن مضرب المثل…
وأخطر ما فيها كذلك أنها أبطلت كل الفلسفة التي تقوم عليها الدبلوماسية من قديم العهود حتى الآن، ولا سيما مبدأ البشاشة في وجوه من تكلمهم وإن كان قلبك منطويا على ما هو منطو عليه، فبعد هذه الأسرار لم يعد بإمكان أي دبلوماسي مهما بلغت قدرته أن يقنع نظيره بسلامة طويته ولا بإخلاصه في تعاطيه مع بلاده، كل ذلك الصرح من المجاملات قد انهار ولا بد من بناء صرح جديد من رجال جدد وزمن طويل وتراكم كثير لا ندري هل بقى من الدنيا ما يمكن أن يحصل فيه.
ما أشبه هذه الأسرار إذ تنشر وهذه الحقائق إذ تبعثر بما يذكر عن يوم القيامة يوم تبلى السرائر وتظهر المفاجئات على حد تعبير ولي الله والد ابن خالنا رحمه الله فذلك اليوم تبلو كل نفس ما أسلفت وتنشر على رؤوس الإشهاد فضائح المنافقين والمرائين والمذنبين إلا من ستر الله عليه بستره الجميل وكرمه الواسع، ولا يمكن لأحد أن يتنصل من شيء لأن كل شيء محصي في إمام مبين يقال لصاحبه: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}.
إن ما فعل هذا الصحفي وإن كان يلبي حاجة في صدور أهل الصحافة، ويشبع رغبات أهل الفضول، فإنه مناف للحكمة التي بني عليها قوام العالم منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، ألا وهي الستر على عباد الله وإيكال سرائرهم إليه ومعاملاتهم على ما ظهر من صفحاتهم ونطقت به جوارحهم.. إن وجود هذا الحجاب هو وحده الذي يمكن أن تعمر به الأرض وتتحقق به الخلافة فيها.
ولا أدري مثل ما وقع من هذه الأسرار المفشوة قابلا للاستمرار فهو مخالف لطبيعة الكون، مع إني لا آمن أن يكون ما حصل إنما هو نموذج قدمته الإرادة الالهية لما ستكون عليه الأمور يوم تبلى السرائر ليتعظ به متعظ وينزجر منزجر.
وقد بلغنا أن المتضرر الأكبر من هذه التسريبات ينوي القبض على هذا المسرب فمحاكمته بما كسبت يداه من إفشاء الأسرار وخيانة الأمانة وتعاطي النميمة والوشاية بالإضافة إلى ما نسب إليه قبل ذلك في الجانب الشمالي من اوروبا الشمالية.
وسمعنا أن له محامين لا يشق لهم غبار في المحاماة، سبق لهم أن أخرجوه من غياهب السجن بعد أن كادت تطوح به طوائح الزمن ويدفع إلى مناوئيه في ذلك البلد فيرجع منهم إلى غير أهله. ورأينا في التلفزة قوما من أنصاره يقولون بمذهبه ويستميتون في الدفاع عنه ويرون أن ما صدر منه من إفشاء للأسرار هو عين الصواب، وأنه لا لوم عليه في ذلك وأنها مشكاة ظاهر عنه عارها، وإنما اللوم على من سربها إليه من الموظفين الرسميين، وأن ميثاق شرف الصحافة يفرض عليه واجب التكتم على المصدر الذي استقى منه المعلومات وتلقى منه تلك البرقيات، وانه على الساخطين عليه أن لا يلوموه بل عليهم أن يلوموا أنفسهم في تفريطهم فما على موقع ويكيليكس من سبيل.
وبعد فهذه الحادثة تطرح إشكالية أوسع من نطاقها وهي أن هذا التطور الهائل في وسائل الاتصال لم يصحبه تشريع ملائم يضبط كبرى قواعده ويتكيف مع مجمل اكراهاته، فقديما قيل لكل وضع جديد تشريع جديد، والله اعلم.
الموضوع السابق
النواب يجيزون بالإجماع اتفاقيتين لتمويل بناء الحرم الجامعي ومد آفطوط الشرقي بمياه الشرب
الموضوع الموالي