العفو صفة أخلاقية سامية، منها اشتق اسم من أسماء الله الحسنى، وقد قال جل من قائل في العفو {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} (الشورى / 25 ).. وثمة آيات عديدة في العفو وردت في القرآن الكريم، لما لهذه الصفة من ارتباط وثيق بأخلاق المؤمن وصفاته والتي من أبرزها العفو والتجاوز عن المسيء.
والله تعالى عفُوٌ يحب العفو، ومن أسماء الله تعالى العفُوُ، وهي فعول من العفوث وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه كما جاء في لسان العرب، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أسوة حسنة وهو صاحب العفو الشامل عن قريش يوم فتح مكة رغم كل ما قامت به من أذية وحرب لا هوادة فيها بحق الإسلام والمسلمين وبحق رسول الإسلام في نفسه وأهل بيته، فقد قال لهم كلمته المشهورة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أعزَّ الله بجهلٍ قط، ولا أذل بحلمٍ قط))، وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في نهج البلاغة: “أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة”، و”من عفا عن الجرائم فقد أخذ بجوامع الفضل”، وقال أيضاً: “إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه”، وقال رضي الله عنه وأرضاه: “لا يقابل المسيء بأفضل من العفو عنه”.
ويستدعي العفو محو كل أثر للذنب المرتكب سواء كان أثرا ماديا أو نفسيا، ولعل ذلك ما يجعل المستفيد من العفو يستشعر الطمأنينة ويراجع نفسه مجددا أكثر مما يراجعها وهو تحت طائلة العقاب.
ولا شك أن العفو الذي أصدره رئيس الجمهورية لفائدة 35 من المتهمين في قضايا الإرهاب ثم في حق حوالي 166 من سجناء الحق العام يدخل في سياق العفو الذي تحدثنا عنه كصفة أخلاقية سامية وسلاحا أمضى من السيف ومن العقوبة، وليست تجارب بعض شعوب الجوار إلا نماذج حية على فاعلية سلاح العفو قياسا بسلاح السيف.
وإذا كنت أدعم رأي المطالبين بتوسيع دائرة المستفيدين من العفو لتشمل كل من اقتنعوا بالحوار ونبذوا التطرف والغلو بالنسبة لأبنائنا المغرر بهم، فذلك لأنني مقتنع تماما بأن أثر العفو ومفعوله أقوى من أي سلاح آخر في مواجهة المذنبين.
وحين يعلن المذنب توبته وبراءته من الذنب ومما حمله على اقترافه فذلك ما يدعو إلى مساعدته في التخلص من آثار الجرم ومتعلقاته، وليس بعد التوبة والعودة إلى جادة الصواب إلا العفو الذي سيمكّن من أذنبوا وتابوا من العودة بقلوبهم وعقولهم إلى أهلهم ووطنهم مؤمنين صالحين يدعون إلى الله على بصيرة بمنأى عن الغلو والتطرف والتكفير ويسهمون في إعمار الأرض وبناء الوطن بكل تفان وإخلاص.
لقد فرحنا جميعا حين صدر العفو الرئاسي عن بعض شبابنا الذين غرر بهم الغلاة وغسلوا أدمغتهم وحولوهم إلى قتلة أو مشاريع قتلة سفاكين، ولله الحمد فقد استعادوا وعيهم ورشدهم وأدركوا أنهم كانوا على خطإ بفضل الله تعالى ثم بفضل الحوار مع خيرة علمائنا، ذلك الحوار الذي دعونا له من هذا المنبر قبل أن يطلق بأشهر وهي دعوة بدت ساعتها وكأنها من سابع المستحيلات كما يقال لأن الجرم كان يستفحل يوما بعد يوم.
أجل هما مفتاح تجاوز كافة العقبات التي قد تواجه الأمة، هما ثنائي لا غنى عنه في كل زمان ومكان، الحوار والعفو، وأتمنى على حكومتنا الموقرة أن تواصل مسيرة الحوار المظفرة إن شاء الله وأن يشمل العفو كافة سجناء الغلو والتطرف بعد أن يهديهم الله تعالى إلى جادة الصواب ويخرجهم من دائرة الغلو والتطرف والعنف إلى دائرة سماحة الإسلام.
وأنا واثق من أن معاودة الحوار مع شبابنا المغرر بهم وإصدار العفو عمن يعودون منهم إلى وطنهم ودينهم السمح سينعكس إيجابا على جهود نخبة البلد من علماء وفقهاء ومثقفين وسياسيين في احتواء ظاهرة الغلو التي عرفتها بلادنا منذ بعض الوقت والتي أخذت منحى خطيرا لا يمكن معه أن يقف الغيورون على دينهم ووطنهم مكتوفي الأيادي وهم يرون كيف يفعل الغلو فعله في بلاد شنقيط أرض المنارة والرباط والفتح، وفي خيرة شبابه الذين يقتلون أنفسهم وأهليهم عن جهل بالدين.
إنها دعوة لاستئناف الحوار وتوسيع دائرة العفو ليشمل كل من يعود لدينه السمح ويودع الفكر التكفيري الخارجي الذي يسحق من يؤمنون به ومن لا يؤمنون به على حد سواء ولا يفرق بين مسلم وذمي ومعاهد وكافر، بل يأتي على كل شيء.
وأتمنى أن نتغلب على هذا الغول بالحكمة والموعظة الحسنة وبالكلمة الطيبة التي هي أقوى من جميع أسلحة العصر في مواقع كثيرة.