AMI

عبء يسمى البلديات

بقلم: سيدي ولد أب
لولا أن أنواء الخريف وتشوف الأمطار وانتظار أن تزين الأرض وتبدل غيرها، بساطا من الخضرة والنضرة، يمحي وجه القحط العبوس ويخفف- ولو إلى حين- من لفح الرمضاء، لما طرفت البلديات والحديث عنها عينا ،ولا خطرت على قلب ببال، ولبقيت في سلة المهملات، مطمورة بين قمامات تحكي تاريخا حافلا من الفشل الذريع لهذا المرفق، وتضع علامات استفهام كبيرة حول الجدوى والمغزى من استمراره.

ولكن من باب تذكر الشيء بنقيضه ،عنً لي- ونحن على أبواب فصل الأمطار، ومواسم المدن العائمة وسباحة الأزقة والمنازل وفيضانات الشوارع- أن نحاور و نسائل الإخوة المتشاكسين من بلديات مدينة نواكشوط ومجموعتها الحضرية ، عن بعض من التزامهم نحو ناخبيهم ودافعي ضرائبهم، هل تعلموا من تجارب السنة الماضية، أو استخلصوا الدروس والعبر من طوفان شلالات سطوح منازل أحياء الكبات في مدينة نواكشوط، وأشياء أخرى يضيق المقام عن حصرها وعدها.

وإذا كان الجواب بالنفي- وهذا المتبادر الي- متى سيكون ذلك اليوم الذي يقدمون فيه لمن انتخبهم- ومن يضعون عليه الجزاءات والغرامات، ويوقعون باسمه عقوبة مخالفات فرماناتهم غير المؤسسة أو الخاضعة لمنطق أو قانون، يكبح ويرشد جموحها وجنوحها للتحصيل والجباية من جيوب المواطنين بسبب أو بغير سبب- كشفا بخصوص الأموال العينية والنقدية التي تذهب لخزائن البلديات، بحجة أداء خدمة أو إشباع حاجة للسكان القاطنين في حيزها الجغرافي.

سيقول قائلهم أو بالأحرى من ينتدبون للدفاع عن رتابة وروتين حالهم ، ويتصدى للفضوليين ممن يقطعون عليهم سكون سباتهم العميق، إن ذلك كان دائما موعدا لم تخلفه البلديات بملكها ،ولا تتحمل فيه أية مسؤولية، فهو أولا وأخيرا انتهاء مأمورية ، سواء بإكمال مدتها خمس سنوات غير منقوصة، منصوص عليها في القانون والدستور، أو بقطع هذه المدة بالدعوة إلى انتخابات جديدة جرى العرف لدينا في الغالب الأعم بتزامنها مع الانتخابات التشريعية.

ولكن ما يقارب ربع قرن مضت على تجربة البلديات في موريتانيا قطعت الشك باليقين، في أن لا سبيل إلى تقويم وإصلاح هذا المرفق، الذي رانت أوضاعه على طريق أخرى، غير تلك التي توقعها وانتظرها منه أولئك الذين بنوا عليه جبالا من الآمال، انقلبت سرابا وخيالات ،ما عادت تنطلي على أحد، حتى من أولئك المتمسحين بكعبة ديمقراطية أسسوا بنيانها على وهم يسمى اللامركزية، اعتقدوه ركنا مكينا استحال بعد التجربة إلى عبئ ثقيل ينوء بحمله المواطنون، الذين كان القصد من تبنيه مساعدتهم على أخذ زمام أمور تنميتهم القاعدية بأنفسهم.

فخصوصية مرفق البلدية في الدول المتخلفة، التي تميزه عن نظرائه في تلك المتقدمة، أنه يضطلع – أو هكذا يجب أن يكون- بدور تأطير السكان والمجتمعات المحلية، حديثة العهد بممارسة الأنظمة الديمقراطية، حتى تتعود وتتهيأ للحلقات التالية، من ما تواضع الناس في موريتانيا خلال أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات واصطلحوا على تسميته بالمسلسل الديمقراطي.

ذلك المسلسل الذي انقلبت الآية فيه رأسا على عقب، فالقاطرة التي كان من المتوقع أن تجر بقية الحلقات استدارت إلى الخلف، لتأخذ موقعها في آخر الحلقات، وتتخلى عن القيادة وقطر العربات الأخرى، وتصبح إحدى التجارب غير الناجحة في مجال الامركزية ومحاولات التأسيس لثقافة حكم محلي، يحد من شطط واعوجاج السلطة المركزية وجنوحها الفطري إلى الاستبداد واستغفال رعيتها الأمية وغير المسلحة بثقافة تعينها على فهم ما يدور حولها.

بل إن عجز البلدية لدينا ، خاصة في المدن الكبيرة كنواكشوط ونواذيبو وعواصم الولايات، في إقناع السكان بأنها أفادت حياتهم، أو ساهمت ولو بالنزر اليسير في حل مشاكلهم، أضاف بعدا آخر للأزمة التي يتخبط فيها هذا المرفق، منذ أول مأمورية له سنة 1986 في المدن الكبيرة، كان من المفروض أن تكون كفيلة بإقناع أصحاب القرار، بإعادة النظر بصورة جذرية وراديكالية في الأسس والمنطلقات التي انبنت عليها سياسة البلد في مجال اللامركزية والحكم المحلي، بصورة عامة.

ولكي نكون صريحين مع أنفسنا، يجب الاعتراف بأن البلدية ومشتقاتها فقدت سندها الشعبي، وبالتالي مبرر وجودها -على الأقل في شكلها وصيغتها الحالية- ولم يعد من المصلحة العامة في شيء الإبقاء على كيان يتغذى على جيوب المواطنين الفقراء، ويقتطع من خزينة الدولة أموالا طائلة، يصرفها ويبددها في أوجه يمكن أن نجزم بخصوصها أن استفادة المواطن منها هزيلة ضئيلة، ولا تكاد ترى بالعين المجردة.

فما نعلمه حتى الآن أن الضرائب والجزاءات التي تفرضها بلديات نواكشوط التسع ومجموعتها الحضرية مثلا ، حتى على الكلاب الضالة والقطط السائبة والهوام والزواحف والطيور والأطباق والطائرة، لم تغنها وعمدها المحترمين عن مسألة الدولة وخزينتها العامة، وإشهار العجز عن الاضطلاع بالواجبات التي يرتبها القانون على المرفق البلدي، في مقابل ما يستنزف من أموال، سيلقمون الأعداء حجرا إذا تحدوهم بتوضيح أوجه صرفها.

وهنا أسدي إلى البلديات ومختاراتها الموقرين نصيحة خالصة من عندي، أن لا يكون بين تلك الأبواب وأوجه الصرف المشار إليها آنفا مجالات النظافة، والصحة العمومية، ودور رعاية الأطفال، وصيانة الطرق الحضرية ، كما لا يجب أن يكون من بينها بأي حال من الأحوال، إقامة المتنزهات العامة في الساحات العمومية، لأن ذلك ترف وإسراف تشي تجربة بلدياتنا الموقرة بأنها لم تقبل يوما أن تجر إليه، تماما كما هو شأنها وعادتها في التصدي للسيول والفيضانات التي تسببها الأمطار الموسمية لسكان المدن الكبيرة، فقناعتها ولسان حالها دائما (أسحاب ما أتخسر ألما صلحت).

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد