AMI

معا ضد الماضي الأليم

بقلم/ المختار السالم:
elmoctar@gmail.com
فجر استقلالها قبل خمسين سنة، كان أكثر من 95% من سكان البلاد يقطنون في الأرياف، لا تربطهم أي صلة بـ”الدولة” سوى “رابط” جغرافي، لم يكن بدوره “شفافا” ونافذا نحو الوعي الجمعي لمجتمع الأحياء البدوية المتنقلة”، وكان الـ 3% من سكان المدن، أي المؤسسون الأوائل “ريفيين” إلى حد بعيد بدورهم.. ظهر ذلك واضحا في تصورات ومخططات التأسيس التي ستتعرض لاحقا لنكسة كبيرة جراء “تهافت” النخب السياسية والإيديولوجية والاجتماعية على عرقلة مسارات التنمية والتطور، حتى أن البلد ككيان تحول إلى سلعة قابلة للبيع في السوق “الإقليمي” تحت يافطة هذا الملف أو ذاك.
وقد ظلت أغلب “النخب الوطنية”، وهي تنتقل من مظلة حكم إلى آخر، تعتمد على مصدر دخل وحيد هو “تسليع” الكيان الوطني، وقضاياه الجوهرية، وكان ذلك عن “وعي” غالبا بخطورة هذا الدور وتأثيره على جرف أساسات أي تصور لمستقبل البلد.
لم يتوان البعض في “سباق الإرادات الضيقة” ذاك عن تمهيد “الأرضية” لمزيد من “إرهاصات” المصاعب، حتى أن الآلاف من سكان الريف، وبكل براءتهم السياسية، نزحوا إلى الخارج بحثا عن لقمة عيش ودولة تحميهم، بعد أن أدركوا بـ”فطرية” محضة أنه لا يوجد في بلدهم إلا إرادة التهشيم.
لم يكن هنالك أي مكان لنداء الإصلاح في المخارج الصوتية لحنجرة الواقع المزري، فارتفع نعيب الفساد، وحلق بوم التشتت، وأشرأب عنق الاضمحلال، وسافحت اللحظات الجنائزية أنفاسها في خلاء الصمت المخيف.
وهكذا وجدت “النسب المروعة” طريقها للتجذر في موريتانيا “العهود القريبة”، حيث صنفت 95% من السكان في خانات الفقر بمختلف مساحاتها الفلكية، ووصلت نسبة الأمية إلى 60%، فيما كانت البنية التحتية للدولة لا تتجاوز 5% من الحد المقبول، بينما تواصل تسرب ثروات البلاد من “منافذ” هذا الواقع الأسطوري.
في السنوات الأخيرة من رحلة التيه هذه، ومن حيث لم ندرك حتى الآن، بدا وكأن خيط ضوء يلوح في الأفق الذي طالما استعذب أنخاب الظلام.
فوجئنا ببروز نخب التغيير، فلم نصدق “الحكاية”، ونحن أبناء أسطورة “الاستقرار” المميت، فأخذنا نتفرج وكأن الأمر لا يعنينا نحن مواطنو الشوارع الخلفية، وفقراء الأحياء العشوائية.
كان من الطبيعي تماما أن نترك “محرك الشك” يدور في صدورنا العارية، وبطوننا الخاوية، فقد مللنا لعبة الكلمات المتقاطعة، وأصبحنا نعرف الباطل في “ألفاظ الحق”.
لكن “الحكاية” بدأت تتحول إلى تاريخ، تأكدنا أن الشمس فوق “خط الاستواء”، وأن في النخبة السياسية الجديدة فريق إصلاح وصل إلى مرحلة الفعل في توزيع بطانيات الأحلام.
لقد ترجمت “المعركة” البرلمانية التي دارت يوم الجمعة الماضي، وبما لا يدع مجالا للشك، أن “فريق المصلحين والديمقراطيين” أصبح أقوى داخل صفوف النخبة الوطنية الموريتانية، فلأول مرة في تاريخ البلاد يتسابق نواب المعارضة والموالاة إلى “منازلة” من أجل مصالح الشعب، ولأول مرة تتنازل حكومة موريتانية عن صفة “الملائكية” وتعترف بوجود حالات فساد، بعد أن كانت الحكومات السابقة “تحارب” فسادا لا تعترف بوجوده..!
إن الخطاب السياسي الذي تابعه المواطنون الفقراء خلال الأسابيع الماضية من خلال “الرقم القياسي” في استدعاء واستجواب وزراء الحكومة من طرف البرلمان، وحول كل الملفات، هو خطاب مطمئن ومبشر بتحول سياسي متميز في أسلوب معالجة الهم العام بغض النظر عن الأهداف الآنية لهذا الطرح، أو “التكتيك” المقصود منه، فقد لامس، ولأول مرة، الفارق بين مسؤولية النواب وبين دور الحكومات.
ولكي نحافظ على هذه الخطوة التي تحققت، أعتقد أننا بحاجة إلى تلك الأبجديات التي طالبنا بها أكثر من مرة، وهي أن يعلو “الخطاب الوطني” على الخطاب الحزبي في تفريعاته الخصوصية، وأن يعي “الديمقراطيون المصلحون”، سواء في الأغلبية أو المعارضة، أنهم في خندق واحد ضد “الماضي الأليم”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد