ديدي ولد أسويدي من جيل الإعلاميين الأول الذي واكب نشأة الدولة الموريتانية ولعب دورا أساسيا في قيام إعلام ناصح حقيقي يخدم قضايا وطنه ويعتمد النزاهة والمهنية في عمله، وكان همّ هذا الجيل هو تأصيل المواطنة والوعي بأهمية خدمة الوطن.
وفى سياق هذا اللقاء يروى لنا كيف كانت البداية:
“كنت من الأوائل الذين واكبوا بداية النضال في موريتانيا الذي أدى إلى الاستقلال.
في البداية يمكن القول إن موريتانيا كانت حاضرة في المشهد الدولي ولها وجود على أرض الواقع، فهي وفقا للروايات التاريخية ورثت حكم المرابطين الذي شمل نفوذهم بلدان المغرب العربي.
عندما جاء الاستعمار تفرقت تلك الدول وأصبحت مستعمرات مقطعة الأوصال وبقيت موريتانيا مستعمرة وحدها وظلت حتى سنة 1946 حيث برز ما يشبه بداية الدولة .
كان الموريتانيون مقصيون من السياسة لأنهم تاريخيا كان عندهم نوع من الصمود الداخلي الاجتماعي يرفض التعامل مع القوة الاستعمارية وما ترغب فيه، ولذلك كانت موريتانيا تحت الوصاية وتُمثَّل سياسيا من طرف فرنسا أو السنغال التي سبقتنا في هذا المجال، فقد كنا نمثل في البرلمان الفرنسي الإفريقي من طرف سينغور.
في سنة 1946 كان لا بد من نوع من الاستقلالية، وحينما جرت الانتخابات نجح فيها السيد حرمه ولد ببانه كأول نائب برلماني موريتاني في البرلمان الفرنسي.. لكن لم تكن هناك أحزاب سياسية.. كان الموريتانيون منقسمون حسب رؤيتهم وتوجهاتهم على الأحزاب الفرنسية.
بعد ذلك تشكل حزبي “الاتحاد التقدمي الموريتاني” و”الوئام”، الأول ذو توجه يميني والثاني يساري، وكان حرمة ولد ببانه في الحزب الذي يطالب بالتحرير.
بعد تجديد البرلمان 1951، نجح سيدي المختار أنجاي وهو من اليمين وسقط مرشح الوئام حرمه ولد ببانه. وبرزت في تلك الفترة فكرة أن يكون لموريتانيا استقلالها وأن تكون لها جمعية إقليمية، وجرت الانتخابات ونجحت جمعية إقليمية لها صلاحية التصويت على الميزانية المحلية.
وفي سنة 1957، صدر دستور تعزيز استقلال المستعمرات وأصبحت لدينا حكومة يرأسها وزير أول تابع للحكومة الفرنسية .
وبدأت تلك المرحلة وأصبح المختار ولد داداه، رحمه الله، وزيرا أول لديه الأكثرية في الجمعية الإقليمية، وصدر القانون الإطار وأصبحت الحكومة تجتمع وظلت تلك المرحلة إلى سنة 1958 حيث اضطربت الأحوال في العالم وحصلت المغرب وتونس على استقلالهما وبدأت المطالبة بالاستقلال وانطلقت حرب التحرير في الجزائر التي كانت تعتبرها فرنسا ولاية منها .
وكانت هناك اضطرابات سياسية في فرنسا أدت إلى عدم استقرار الحكومات حيث أن بعضها سقط بعد شهرين من تشكيلها، لأن النظام برلماني والسلطة الحقيقية عند الوزير الأول. كما بدأت فرنسا تتأثر بالحرب الهندية – الصينية وتم استدعاء الجنرال ديغول من طرف رئيس الجمهورية الرابعة وكلفه برئاسة الحكومة مقابل إعطائه الضوء الأخضر للقيام بما يراه مناسبا.
وزار ديغول موريتانيا لتهيئة هذه الأمور حيث توجه من الجزائر إلى أطار مباشرة .
كانت موريتانيا، كما قلت آنفا، حاضرة ويحسب لها حسابها في كل القضايا ولها أهميتها الإستراتيجية لفرنسا .
فعندما تسلم ديغول السلطة حل الحكومة وقال إنه سيقيم الجمهورية الخامسة، حيث يصبح للوزير الأول صلاحيات واضحة وللبرلمان صلاحياته.
وكان يحضِّر لإعطاء المستعمرات الاستقلال الداخلي لأن فرنسا خرجت منهكة من الحروب وخاصة الحرب الهندية الصينية.
وفي سنة 1958 كانت هناك اضطرابات خارجية أثرت على الوضع فى موريتانيا، وكان الاتجاه العام لدى الجميع أن تظل البلاد تعيش حالة استقرار، بعد أن تعرضت لاضطرابات وعدم استقرار منذ سنة 1956، حيث استقال بعض أعضاء حكومة المختار ولد داداه. كما اشتد النشاط السياسي الخارجي فى هذه الفترة وظهرت فكرة الجمهورية الخامسة وبرزت معها فكرة الاستقلال الداخلي في موريتانيا وغيرها من المستعمرات ليكونوا أعضاء في المجموعة الفرنسية الإفريقية.
فى تلك الفترة انعقد مؤتمر ألاك وكان هدفه دمج حزبي اتحاد التقدم الموريتاني والوئام في حزب واحد “حزب التجمع الموريتاني”، وهو ما أدى إلى بروز حركة الشباب من جديد التي عقدت مؤتمرها في نواكشوط واقترحت إنشاء حزب النهضة الذي كان هدفه الأساسي هو المطالبة بالاستقلال التام وهي الفكرة المغايرة لما كان عند أعضاء اتحاد التقدم الموريتاني .
كما برز الاتحاد الوطني الموريتاني برئاسة الحضرامي ولد خطري وحزب الاشتراكيين المسلمين في الشمال، وأربعة أحزاب أخرى.
وعندما اشتدت المطالبة بالاستقلال كان هناك خط وسط للمختار ولد داداه وجماعته فهم ليسوا ضد الاستقلال الداخلي ولكنهم ساروا في خط المطالبة بالاستقلال التام وتجسدت الفكرة وبدأ التحضير للاستقلال.
وبخصوصنا كإعلاميين، وفى هذه الفترة بالذات، كان همّنا هو تأصيل المواطنة والوعي بأهمية خدمة الوطن مع نقل ما يحدث دون تعليق.. كان الجميع مرتاح للاستقلال وكنا ننقل ما نرى وكان للإعلام تأثيره، فالناس كان يهمها كثيرا الإعلام والعدالة..
عدد الصحفيين في الإذاعة حينذاك قليل جدا وكانت الإدارة في يد الفرنسيين.
كنت من أوائل الصحفيين المهنيين إضافة إلى اعبيدي ولد الغرابي الذي تكوّن في إدارة الأخبار وكذلك عبد الله ولد سيديا الذي أصبح مديرا فيما بعد وتبعهم محمد محمود ولد ودادي وخي بابا شياخ .
وكان مصدرنا الأساسي للأخبار وكالة الأنباء الفرنسية فضلا عن الأخبار التي تحدث داخل البلاد.
وكان المذيعون في الإذاعة من الموظفين الأوائل، مثل عبد الله ولد عبيد وأحمد بزيد ولد احمد مسكه.
فيما يتعلق بالتسيير كان اختلاس الأموال العمومية أمرا عظيما في تلك الفترة، لم يكن هدف الموظفين الثروة فلم تكن في تفكيرهم .
كان المتوفر من الأموال يكفي لسد الحاجيات وكان يتم تسيير الموارد مهما كانت ضآلتها للصالح العام .
عندما تتم المصادقة على الميزانية يتم صرفها فيما صودقت عليه، والمراقبة مستمرة وطريقة الصرف واضحة.. وكان المجتمع لا يقبل اختلاس الممتلكات العامة ويمقت أصحابها .
عندما يتسلم مدير إدارته يراجع نظام عمله وتسلم له تقارير عمل الذين سبقوه ويتصرف بناءا على القانون وانطلاقا من الإدارة المكتوبة .
فيما يتعلق بالآفاق المستقبلية للبلد، أرى أن الشعب بخير والثروة موجودة وكذلك الوسائل ولا ينقصنا الذكاء وهذا مما يسهل المهمة.. كل ما يلزمنا هو التشبث بالقانون والضوابط الأخلاقية والثقة بالنفس والأخلاق والثقة كذلك في الوطن والاستعداد للدفاع عنه فليس لنا وطن غيره.