AMI

من أجل مستقبل أفضل بقلم: أحمد ولد مولاي امحمد a.moulaye.md@gmail.com

على مدى تاريخ موريتانيا المعاصر، ظلت نخبنا المتعاقبة على الحكم وإدارة الدولة تكرس نمطا استثنائيا للإدارة والتسيير لا يستند إلى أية قواعد أو أسس علمية أو منطقية، حوّل إداراتنا إلى مرتع للفساد والرشوة والتسيّب، وأصبح المسؤول والمرؤوس كلاهما نموذجا للموظف السيئ الذي يتعاطى الرشوة وينهب المال العام بالحيل والمكر والخديعة، ولا تعوزه أية وسيلة ليدخل دائرة الأثرياء بالمال العام على حساب القيم والعادات الحميدة لشعبنا ومجتمعنا المسلم.
لقد أصبح الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية والجهوية والقبلية والزبونية بعضا من المفاهيم السائدة والراسخة في عقول نخبنا الحاكمة والمتنفذة، وغدت الاستقامة والنزاهة والتمسك بأخلاقيات المهنة والقيم الفاضلة ومحاربة هذه الأدواء بمثابة التغريد خارج السرب والسباحة عكس التيار، وغدا أولئك المتمسكون بالقيم الفاضلة في الإدارة والتسيير والمعاملات مثل من يعيش ويتعامل خارج الزمن والعصر الذي نعيش فيه ؟!.
فحين ينأى أي مسؤول بنفسه عن انتهاج هذه الأساليب الملتوية في التعاطي مع الشأن العام فإننا لا نعدم من ينعته بالعجز والتخلف وغير ذلك من الأوصاف التي يستخدمها المفسدون وأكلة المال العام على نطاق واسع، أما الذين لا تعوزهم وسيلة لانتهاج تلك الأساليب وتكريس أمراض الإدارة فهم (الأبطال) و(الرجال حقا)، إذ يعتبرون المال العام بمثابة “مال هوش” و”شاة بفيفاء لك ولأخيك وللذئب”، فأي منطق يحكمنا في عصر التكنولوجيا والتقنيات الحديثة وغزو الفضاء، وأي منهج نتبعه في عصر تتنافس فيه الشعوب على الإنتاج والإبداع والتميز، ويحسب فيه للدول والشعوب حضورها العلمي والتكنولوجي وعطاؤها للبشرية. فأين نحن من ذلك وهذه وضعيتنا؟!.
لقد اتسعت دائرة المفسدين لدرجة أصبح من الصعب فيها أن نعيد بناء دولة حديثة دون أن نثير العواصف، لأن معظم الناس إما داخل حياض المفسدين أو ينهلون منها، وبالتالي فإن معالجة هذه الظواهر تتطلب التوعية بمخاطرها والتحذير من التمادي في انتهاجها أسلوبا للإدارة والتسيير ومن ثم معاقبة كل من لم يرتدعوا.
وفي هذا الصدد فإن الصرامة وتحكيم القانون دون هوادة سيحدان لا محالة من تجذر هذه الأمراض الخطيرة على مجتمعنا ومستقبل بلدنا، و لن يتأتى لنا ذلك بالسهولة واليسر المطلوبين ما دمنا ندافع عن فلان لأنه أحد الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء ونبرئ ساحة علان رغم إدانته بالأدلة والبراهين القطعية؟!!.
إن الدفاع عن مصالح بلدنا هو ما سيضمن لأجيالنا اللاحقة تأمين نهج جديد ومصالحة مع الذات تمكنها من اللحاق بركب الأمم ولو بجهد جهيد، وسيظل ذلك مستحيلا ما دمنا نتبنى المفسدين ونحميهم ونحارب القانون ومن يطبقونه، بعيدا عن العدالة في التعاطي مع الشأن العام والتي ينشدها الجميع ويرتاحون لها.
إن كل إدارة وقطاع يشهد على فساد من سيّروه منذ عقود متصلة، ومن السهل جدا أن نجد آثار القبلية والمحاباة والمحسوبية في كل إدارة وفي كل قطاع، وإذا كان المثل يقول ما استتر من قاد الجمل فإن من يعين إخوته وأبناء عمومته وأصحابه في القطاع الذي أؤتمن عليه لا يمكن أن يستتر على فعلته أو يداريها، إذ لا معنى لذلك سوى تكريس تلك المفاهيم المريضة التي ميزت إدارتنا وتسييرها منذ عقود.
كما أن مختلسي المال العام لا يمكن أن يداروا أفعالهم ونحن نعلم ما يكسبون بالحلال وما يكسبون بالسرقات والاحتيال على المال العام، إذ لا معنى لأن تصبح صاحب فلل راقية وسيارات شخصية فارهة ومن أحدث الموديلات وتملك من المشاريع التنموية والشركات والورشات الكثير وراتبك الحلال هو ذلك المحدد سلفا والذي نعلمه جميعا!!.
صحيح أننا في مرحلة سابقة قلنا “عفا الله عما سلف” ولست أجزم أننا أتبعناها قوله تعالى {ومن عاد فينتقم الله منه}، لكن المؤكد هو أن الفساد سيتأثر كثيرا لكن المفسدين لم يرتبكوا ولم يترددوا كثيرا في ممارسة أساليبهم ونهجهم المدمر للبلاد وللعباد رغم بعض القلق الذي يساورهم، فهل نترك هؤلاء على ما هم عليه لنظل على ما نحن عليه في عالم كالذي نعيش فيه؟!.
أعتقد أن الإجابة بالإيجاب تعني أننا نضع البلد رهينة للفساد وللمفسدين وندمر مستقبله بالكامل، ونترك لأجيالنا اللاحقة إرثا من الفوضى واللامسؤولية يصعب أن تبنى به ومعه أسس دولة عصرية يسودها العدل ويحكمها القانون والقيم الحميدة، وبالتالي فإنه لا معنى لمعارضة الحرب على الفساد إلا أن نكون مع سيادة هذا المنطق الأعرج الذي سيعرضنا ويعرض أجيالنا اللاحقة للضياع وهو ما يأباه العقل والمنطق وترفضه كل الشرائع و القيم.
إننا مسؤولون جميعا عما يجب أن نصير إليه كشعب وككيان في الألفية الميلادية الثالثة، حيث التنافس المحموم بين الدول والشعوب في مضمار العمل و الإنتاج، وما لم نعتبر مما نحن عليه فإننا لن نتجاوزه إلى ما وصلت إليه الأمم والشعوب في عالمنا المعاصر من رقي ورفاهية وازدهار.
وهكذا فإن الفساد بما فيه وما يتضمنه من أمراض آنفة الذكر، لا يمكن أن يظل سائدا في بلد يريد له أبناؤه المخلصون أن يصبح درة قرنه، وقدوة لشعوب العالم ونموذجها للديمقراطية والحكم الرشيد، وبالتالي فإننا جميعا، كل من موقعه، مطالبون بالدخول علنا ومن دون تردد في الحرب المعلنة على الفساد وعلى المفسدين وعلى كافة أمراض إدارتنا التي هي من صنع نخبنا المتعاقبة على الحكم، وما لم نستوعب خطورة هذا المرض المزمن لدينا فإن مساهماتنا في هذه الحرب ستظل ضئيلة وخجولة وأقل من الواجب الذي يمليه علينا الدين والضمير والوطن..

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد