AMI

المهم أن نخرج من الدوامة بقلم بابا الغوث

مضت – حتى الآن – ستة عقود على ظهور دولتنا وتبوءها مكانها الجغرافي والمعنوي على مسرح المحياة. وكاد هذه العقود تكون قد مرت علينا كحو الطير أو هو أسرع. وحينما ننظر إلى الواقع مثلما ما أنتجه العمل السياسي على الأرض تحس بأن نفسك تتصاغر وأنت تتأمل المشاهد القائمة التي تعكس فوضوية واعتباط النشاط البشري الذي جرى خلال هذه المدة الزمنية الطويلة. تنظر إلى يمينك فترى الأكواخ قد ملأت الرحب وانتشرت انتشار العاهات الجلدية محولة المكان إلى عالم من الصور الشوها التي تعلن بصراحة وبلاغة عن ما كان عليه الإهمال وأين وصل التخاذل بالعقل السياسي.. وحين تنظر إلى شمالك تطالعك المركبات العمرانية الفخمة وقد تناكبت بجميع الأشكال الهندسية وازدحمت بعفوية حتى سدت معظم الطرق وملأت الفجا إلى حد لم تترك معه منفذا لسالك ولا متنفسا لمتضايق.. تشاهدها وهي تعلن بجلاء حقيقة الغبن الصارخ والتباين الفظيع بين الأوساط الاجتماعية. التباين بين الذين أخذوا كل شيء والذين لم يأخذوا شيئا على الإطلاق. وهو تباين يروي قصة ثراء فاحش تكاملت حلقاته وتتابعت تتباع حبات السبحة بسلاسة ودونما تعثر أو احتباس وكأن تخطيطا محكما وآليات ماهرة كانت وراءه طيلة الوقت وقصة فقر مدقع ظل يتلاءم في الاتجاه المعاكس ليشكل كونا من البس المرهق وظاهرة ناشزة تتعاقد فيها التناقضات وتتنوع بحرية وانسياب صانعة جدران التحدي الأشد مراسا في حياة هذه البلاد. وحينما ننظر إلى هذه المشكلة باحثين عن أسبابها الموضوعية نجد أن الإنسان هو الذي خلق ذلك التباين. ونجد أنه خلقه بإهماله للشأن العام. إهماله للهم الوطني.. لشأن الإنسان وشأن الوطن جملة وتفصيلا. ما نشاهده الآن من الأوضاع المزرية هو ثمرة ستين عاما من الممارسات السياسية التي جرت على المحك التجريبي واستنفدت الظهر والزاد وبكثافة ودونما إشفاق، وملأت طول البلاد وعرضها ضجيجا ولجبة واعدة لتحولن الواقع إلى فردوس ينعم فيه الجميع بهناء ورغد.
وها هو ذا الواقع يدين تلك الأنشطة ويسخر منها بشماتة وأزدراء. خلال هذه العقود الستة اشتغلنا جميعا بالسياسة لن يتخلف منا أحد عن ممارسة النشاط السياسي – تلك ظاهرة – تميزنا بها عن سوانا – لست أدري لم حدث ذلك! لم اشتغل شعب بأكمله بالسياسة؟! ورغم هذا الاندفاع الشديد والاقبال المنقطع النظير على التسيس لم تستطع الأحداث أن تبرز سياسيين بارزين يشار إليهم بالبنان ويحسب لهم حسابهم وقد يعول عليهم في مهمة إخراج البلاد من أزمتها أو في استنارة الرأي العام بتنظيرات نابهة وذكية أو في تحديد مسار وطني واضح المعالم ناصع الدلالات محكم التنظير، يشير إلى المستقبل بوضوح وبثقة واطمئنان. ولم تسفر أطواء الوسط السياسي حتى الآن عن رجال عرفوا بقوة الموقف وصلابته.. ولايمكن يوسمون بحبهم العارم للوطن وإخلاصهم له واستعدادهم للتضحية من أجله. لم نعثر بعد على شيء من ذلك. وهذا شيء مثير للغرابة من حيث المبدأ إذ الاعتيادي في حياة الشعوب هو أن تولد المعاناة السياسية نماذج من كل هذه الفصائل. البلد لم ينجب رموزا سياسية فلم؟! لا أظن أننا نعاني من القصور الذهني أو التخلف العقلي، لأن ثمة أدلة واضحة على استبعاد هذين الاحتمالين.. لذلك فأنا أميل إلى مبدإ الصرفة.. لابد أننا صرفنا عن هذا المجال أعني مجال الدراية في السياسة. وكانت العوامل التي اكتنفت قيام الدولة واشتغل بها الناس ذات شحنات ضحلة. وكانت زادا استهلاكيا يخاطب المشاعر وتموضع الذات. وكان الوعي السياسي سديما ضبابيا لا يوحي بمعان كبيرة بل مجرد إشارات باهتة. ثم تجلى من خلال تلك الصورة الهلامية مفهوم الانتماء والولاء للحاكم,, ثم نام الانتماء بينما ظل الولاء يملأ المكان ويغمر المشاعر ليصبح بعد وقت هو كل شيء في حياة الناس. وكان هذا أمر طبيعي.. الدولة التي استلمت الاستقلال لم تحفظ منهجا سياسيا يستهدف تكوين المواطن. ولها عذرها في ذلك.. فليس لديها إمكانيات علمية لتصميم منهج سياسي وطني يضع الأسس العلمية لبناء دولة حديثة. وحسبها أنها وضعت يدها على مقود السفينة ولم يكن بحوزتها أفضل من ذلك لتفعله. ونتيجة لهذا العجز ظل المواطن في فقر مدقع من القيم والمثل والمباديء السياسية… وظل نتيجة لذلك ريشة في مهب الريح. وكان الغموض هو سيد الموقف، ومن أين لك أن تتبين طريق الصواب إذا كانت الأبعاد في حالة توار واختفاء عن ناظرك، هذا هو الحال الذي كان سائدا.. وقد أوصل البلاد إلى الحلقة المفرغة التي لبثت فيها دهرا طويلا.. ولا تزال أتراحها تكتنف أسباب الحياة وتنضب ينابيعها وتقلص فرصها. في الآونة الأخيرة انعم الله علينا بهذا المواطن العزيز النابه الرئيس محمد بن عبد العزيز.. جاء بمباديء تحمل جملة من المعاني السياسية استطاعت أن تزيح الظلام عن المدى وأن تحدد أفقا واضحا وأن تمهد دربا وتنيره فكان ذلك سببا في تجديد الأمل وتعاظم الثقة في إمكانية الخروج من الحلقة المفرغة والتحرر من أسر الدوامة والانطلاق في مجال الحركة وتكوين الفعل المؤسس لبناء المستقبل الفعلي القائم على الأرض لا المستقبل الصوري المرصوص بالكلمات المفؤود من المعنى ومن المصداقية، وإذا لم يفعل الرئيس محمد بن عبد العزيز من الإنجازات السياسية إلا تلك المباديء التي أطلقها والمعاني التي أماط عنها الركام. لكفاه ذلك أحرى ما يجري على قدم وساق من الأنشطة الهادفة على بناء بنية تحتية قويمة لتكون أرضية لنهضة شاملة ها هي حلقاتها تتكامل مع مرور الوقت لتصل على غايتها في المستقبل المنظور.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد