بقلم: محمد فال ولد عبد اللطيف
ورد في الصحيح من الحديث الشريف ما يفيد أن الناس بالنسبة لتقبلهم للهدى والإصلاح وحسن تسيير العاجل والآجل كمثل الأرض وتقبلها للمطر وتأثرها به، ذلك المطر الذي يرحم الله به كل سنة بساط الأرض فينزل عليها غير مميز بين سهلها وحزنها، ولا بين جبلها وحضيضها، لا يفرق في سيبه وسيله بين واحد مما هنالك.
ولكن أجزاء الأرض في تقبل هذه الرحمة العامة ليست سواء. فمنها طائفة تقبلت الماء وأمسكته وانبتت به حدائق ذات بهجة تسر الناظر والمناظر، فانتفع بها الناس والأنعام وأكل منها القاصي والداني، وعم نفعها الحضر والبدو، فدر الضرع، وابتهج الزرع، خضرة حلوة، من بقول وزروع وفواكه وكلإ غمير..
وكان منها طائفة لم تنبت الزرع- ولا يمكنها أن تنبته- ولكنها أمسكت الماء إمساكا جيدا فلم يضع شيء قل أو كثر فحصل فيه الكم الوافر المستبحر العذب النمير، فشرب منه الناس حتى ضربوا بعطن، وسقى الرعاء ورويت البساتين وانتعشت الوحوش والطير وكل ذي كبد حرى.
وكان منها طائفة إنما هي قيعان جدبة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ لا خير فيها البتة، فهي وحل في الخريف، غبار في الصيف.
ولعمري إن المجتمع في تعاطيه مع دعاة الإصلاح، هو مثل هذه البقاع المذكورة شبه الغراب بالغراب.
فمنهم من يستقبل الإصلاح ويعمل بمقتضاه وينشر ثقافته فيؤتي ذلك أكله عاجلا بتقدم المجتمع ورقيه ماديا وروحيا، وانتشار قيم العدالة والإحسان داخله بحيث يستفيد كل مواطن من الثروة الوطنية ولا تبقى دولة بين الأغنياء فقط.
وهذه الطبقة من المجتمع اجتمع فيها عاملان من عوامل الإصلاح هما الاستعداد الفطري وتوفر أسباب العمل الايجابي فكان من نتيجة ذلك أن اندحرت قوى الفساد وقيمه فلم تجد أذنا صاغية ولا ساحة خالية فعم الخير، وحبب إلى الناس، وكره إليه الكسل والعجز والهمز واللمز.
وأما الطائفة الثانية فلم تتوفر فيها المؤهلات الفطرية لاستغلال فرص الخير لسبب من الأسباب، ولكنها ليست شريرة بطبيعتها، فأكثر ما يمكن أن تساهم به هو المشاركة في تهيئة الساحة له بتوفير الوسائل الضرورية لتحقيقه.
وهذه الطبقة، وإن قل غناؤها عن غناء سابقتها، فإنها لا تقل عنها من حيث الأجر الأخروي لأن الأجر يكون حسب النيات والطاقات.
وأما الطائفة الثالثة- وهي ثالثة الأثافي- فهي طبقة الأشرار التي لا خير فيهم نغلت قلوبهم وفسدت ضمائرهم وجمدت عيونهم، جمعوا إلى الحشف سوء الكيلة، ميؤوس من خيرهم، مرهوب سرهم، ألسنتهم معاول للهدم، وأفعالهم نذر الشر، لا تنمو ذراهم إلا في الفوضى وتزلزل الثوابت واختلاط الحابل بالنابل.
بقي أن نشير إلى أن هذه الطبقات لا توجد إلا إذا كانت الأوضاع المناخية على وضعها الطبيعي بحيث يكون المطر الغزير في الخريف والبرد القارس في الشتاء والاعتدال في الربيع وحمارة القيظ في الصيف، أما إذا جاء الجفاف العادم الذي لا يميز صيفا من خريف ولا ربيعا من شتاء فإن تلك الطبقات كلها ستكون في الشر سواء كحماري العبادي: قيل له أي حماريك شر فقال: هذا ثم هذا.
هنالك تتحول الطبقة الأولى إلى أجادب لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ حتى يقول القائل: هل سبق أن كان هنا ماء قط أو كلأ؟
وتكون الطبقة الثانية بدلا من أن تمسك الماء، لا تمسك إلا أبوال المواشي والوحوش وفضلاتها، تصبح تلك شنشنة معروفة لها- ناهيك عن الطبقة الثالثة- فلاشك أنها ستتحول إلى نار تلظى ترمي بشرر، يكاد لهبها يحرق ثياب المارة وتنفط له وجوههم وجنوبهم.
ويمثل هذا الجفاف المناخي بالنسبة للمجتمعات “الجفاف الحضاري”، ذلك الجفاف الذي يغيب به الوازع الديني والضمير الوطني، وتستحيل فيه قيم المروءة إلى سندات تباع وتشترى بالمزاد السري في برصات النفع المادي الأناني القريب- والله يعصمنا من ذلك وينجي منه بلادنا خاصة وبلاد المسلمين عامة- إنه علي ذلك قدير.