في خضم المعركة الرسمية المعلنة ضد السكن العشوائي وتحرير فضاءات العاصمة والمدن الكبرى بالبلاد من ظاهرة الأحياء العشوائية (الكزرة)، تتبادر إلى الذهن جملة من الأسئلة حول إستراتيجية الحكومة لتوفير المساكن اللائقة لكل المواطنين في كل أرجاء الوطن، وخاصة في العاصمة نواكشوط، ومدى قدرة الوزارة والسلطات المختصة على مواجهة ظاهرة التحايل والغش التي ينتهجها بعض المواطنين غير المحتاجين للحصول على المزيد من القطع الأرضية.. ومدى الصرامة والجدية في تطبيق معايير نزيهة وعادلة لتوفير مساكن لائقة للمواطنين المحتاجين على عموم التراب الوطني؟.
إن تطبيق قاعدة “سكن لائق لكل مواطن” ستعني في نهاية المطاف القضاء على أهم العقبات التي يواجهها فقراء البلد وطبقته الوسطى متمثلة في إشكاليات الكزرة الإلزامية والإيجار الإلزامي بما يعنيه كل ذلك من انعدام الطمأنينة وحتى الأمن بالنسبة لفئات عريضة من المواطنين الذين أرغمتهم الظروف على السكن في الأحياء العشوائية أو السكن بالإيجار لعدم قدرتهم على شراء أو امتلاك قطع أرضية ومساكن تؤويهم مهما كانت طبيعتها.
وإذا كان ثلث سكان العاصمة أو أكثرهم مؤجرون لمنازل غيرهم فإن ما لا يقل عن الثلث تقريبا يقيم في أحياء عشوائية ومساكن غير لائقة تفتقر إلى الحد الأدنى من مفردات العيش الكريم. أما البقية فهي مجموعات من الإقطاعيين الذين تمكنوا خلال عهود “السيبة” من امتلاك مساحات شاسعة من الأراضي في العاصمة وفي المدن الأخرى حولوها إلى تجارة رابحة وخاصة بعد أن غالوا في أثمانها ليثروا على حساب تلك الفئات العريضة آنفة الذكر والتي لا تجد ما يؤويها في وطنها رغم أن بلدها من أكبر بلدان شبه المنطقة من حيث المساحة ومن أقل تلك البلدان كثافة سكانية؟!.
إن استراتيجية الحكومة الهادفة إلى القضاء على الكزرات وتوفير مساكن لائقة للمواطنين يجب أن يسبقها إحصاء دقيق للمواطنين الذين لا يملكون قطعا أرضية ولا مساكن، ثم مباشرة توزيع القطع الأرضية أو المساكن المنتظرة في مواقع استراتيجية تراعي مختلف معايير السلامة والتكلفة ومختلف الضرورات التي تمليها إقامة أحياء ومدن سكنية جديدة وحديثة في مدينة كنواكشوط يجري الحديث عن إمكانية تعرض مناطق شاسعة منها لمخاطر غمر المحيط فضلا عن ضرورة توفير البنى التحتية العصرية للمدن والأحياء الحديثة بعيدا عن تلك التي كانت معتمدة في السابق والتي شوهت مشهد نواكشوط ومختلف مدن البلاد بتخطيطها غير العصري وغير الحضري والذي يشبه في بعض المناطق تخطيط بعض المدن العتيقة وخاصة فيما يتعلق بالممرات والأزقة الضيقة التي لا تمت بصلة لصور المعمار الحديث في العالم من حولنا.
ومن الضروري في كل الأحوال مراعاة الظروف المعيشية والاقتصادية لغالبية المواطنين الذين لا يملكون ثمن طن من الاسمنت أحرى تكلفة بناء سكن لائق بكل ما يعنيه ذلك من أموال طائلة لا قدرة لغالبية فقراء البلد على توفيرها، وهنا يكمن دور الدولة الاجتماعي في تولي التكلفة عن المواطن الفقير الذي لا يملك إلا رنين عائدات ثروات بلده التي لا يعرف لها وجهة منذ الاستقلال، وهكذا يمكن اعتبار توفير خدمات كهذه بمثابة جزء يسير من الكفارة عما سلف من نهب لثروات الفقراء وتهميش لهم وإقصاء ألفوه منذ نشأة الدولة الموريتانية الحديثة.
وفي هذا الصدد يمكن تخيير المواطنين بحسب مستوياتهم المادية وظروفهم الاقتصادية بين تولي تكاليف بناء سكن لائق في قطع أرضية مستصلحة ومهيأة مع توفير دعم مادي مباشر من خزينة الدولة، وبين تولي الدولة لمختلف تلك التكاليف والإجراءات مقابل تعويض رمزي يستطيع الفقير أن يوفره بيسر.
ومن المفترض في بلد كبلدنا أن تتولى الدولة تكاليف بناء أحياء ومدن سكنية متكاملة للمواطنين، بما في ذلك أولئك الذين لا يتوفرون على فرص عمل، وهنا يجب على الدولة توفير فرص عمل عبر إنجاز جملة من المشاريع المدرة للدخل بالنسبة للفقراء الأميين وللمتقاعدين الذين لم يسلكوا طريق الشذوذ في التعاطي مع الممتلكات العمومية، وكذلك بسطاء الموظفين الذين لا تمكنهم مرتباتهم وأجورهم المتواضعة من بناء أو تهيئة او استصلاح قطع أرضية ومساكن لائقة، وقد يختلف الأمر قليلا بالنسبة للموظفين إذ جرت العادة على اقتطاع مبالغ غير مؤثرة من رواتبهم شهريا حتى يتم تسديد تكلفة جزافية للسكن على أقساط مريحة، عكس المعدمين الذين يعيشون مختلف تجليات الحرمان والذين لا يملكون ما يخولهم دفع أية أقساط مهما كانت لأنها تظل كبيرة وغير مريحة بالنسبة لهم.
إن تجسيد شعار الأولوية للفقراء لا يمكن أن يتم مع التمادي في تغييب هؤلاء المحرومين في بلدهم والذين آن لهم أن يستشعروا انتماءهم لوطن يؤويهم ويضمد جراحهم ويبلسم آلام عقود من الإقصاء والتهميش ومعاناة التفقير الممنهج عبر عقود متواصلة من الحرمان.
ولا أشك في أن القيم الجديدة التي يتبناها نظام التغيير البناء ستتجسد عن قريب رغم أن معركة التنمية الشاملة تتم على أكثر من جبهة، إلا أننا جميعا متفائلون بتجسيد ذلك التحول الجذري في القيم وفي المفاهيم وفي تغيير العقليات والمسلكيات المذمومة التي حكمتنا منذ عقود متصلة والتي ظل المواطن فيها مجرد صفر على الشمال، لا يستشار ولا يستأنس برأيه ولا قيمة له إلا حين يحتاج السياسيون إلى صوته الانتخابي لا أكثر ولا أقل.
الموضوع السابق
الموضوع الموالي