حين تجوب المهامه والقفار شمال شرقي ازويرات، وتتوغل في مشتبهات من الأراضي المنبسطة الجوعى، لا يمكن أن تحدث نفسك، أو يخطر ببالك- وأنت الإنسان العادي- أن هنالك حياة بشرية على هذا البرزخ الخالي من أي أثر للحياة، بل وربما من أي أثر للموت..
ستشعر وأنت تراقب انسيابية الأرض أمامك ومن خلفك وفي كل الاتجاهات، أنك خارج إطار الزمن، إلى أن يذكِّرك أزيز محركات رباعيات الدفع اليابانية وهي تنهب تلك الفيافي، فتعود إلى الواقع لكنك تحس أن هذه الأرض تفتح فمها لتلتهمك..
أسماء الأماكن ومعالم الطريق، تتحالف مع هذه المهامه، فتخلق جوا موحيا بالوحشة وربما الرهبة.
معالم الطريق بقايا براميل متآكلة، يخيل إليك أنها تركت هناك من غير قصد، وربما تصورت للوهلة الأولى أن آثار الرصاص ما تزال بادية عليها.
وأسماء الأماكن، إما أجرام سماوية تحتضنها تيرس منذ آلاف السنين (قلب الريشات، اتميميشات قلمان..)، أو مواقع شهدت أحداثا أدخلتها التاريخ وكان لها ما بعدها (وديان الخروب، لمغيطي، تورين…).
وحشة الأرض هذه ورهبتها، تتبدد رغم أنفها وتتحول إلى ألفة وأريحية وطمأنينة، حين يقترب المرء من مواقع التجمع الخاص الثاني للتدخل، ويجالس قادته ويراقب عن كثب تصرفات أفراده وعناصره المتواجدين في هذه المنطقة منذ بعض الوقت.
ألفة المكان والإنسان
هؤلاء الأشاوس “أنسنوا” المكان وأزالوا وحشته، وزرعوا الطمأنينة في نفوس عابري المنطقة وخلقوا جوا من التآلف بين المكان والإنسان، وباتوا سادة الأرض بعد أن استباحها المهربون والمخربون زمانا، فروَّعوا الآمنين وسفكوا الدّماء الزكية..
التجمع الخاص الثاني للتدخل باشر مهامه منذ بعض الوقت في المنطقة في إطار استراتيجية أمنية شاملة وضعتها السلطات العمومية، لمواجهة الإرهاب والتهريب وكل أنواع الجريمة المنظمة.
وقد تم تدريب هذه الوحدات وتسليحها وتجهيزها بشكل يمكنها من القيام بالمهام المسندة إليها بشكل يضمن لها النجاح.
ويقول قائد التجمع، الرائد سيدي أحمد ولد الشيخ، إن وحدة خفيفة محمولة على سيارات عابرة للصحارى، قادرة على القيام بمهام خاصة مناسبة لطبيعة التهديدات والوسط الذي تنشط فيه، وتتحدد مهامه في التدخل في إطار عملياتي مدروس لتدمير أي عنصر مسلح يحاول التسلل إلى داخل الأراضي الوطنية أو الانسحاب بعد التسلل عبر الحدود.
كما يتصدى لجميع النشاطات غير المشروعة من خلال السيطرة التامة على المنطقة وبالأساليب الملائمة والاستخدام المناسب للنيران عند الضرورة .
ويضيف الرائد سيدي أحمد إن ذلك يتطلب من التجمع أن يبقى دائما جاهزا للتدخل في منطقته إذا ما استهدفت أو لصالح صديق.
ويشمل قطاع مسؤولية التجمع مناطق الحنك، والكاغط، وآركشاش، وزمور.
ترصد عدو أقرب إلى الأشباح
التجمع جُهِّز لمواجهة عدو أقرب إلى الأشباح، في أرض تحتفظ المخيلة الشعبية عنها بكثير من الحكايات عن كائنات خرافية وأشباح، وتساعد طبيعتها الموحشة على تصديق كل ما يحكى عنها. لكن ذلك لا يفل من عزيمة أفراد التجمع الخاص الثاني للتدخل، حسب قائده، فمهمته تتمثل في حماية الوطن ودرء الخطر عن المواطن، وصد العدو، شبحا كان أو غير شبح.
ويؤكد قائد التجمع أن الأمن مستتب بشكل كامل.
ويضيف الرائد سيدي أحمد قائلا: “صحيح أننا نواجه عدوا غير تقليدي، وهو عدو مرن يصعب تمييزه ويمكن أن يظهر بأشكال متعددة، في شخص منم، أو تاجر، أو عابر سبيل أو غير ذلك.
كما أنه يستفيد بشكل كبير من التقنيات الجديدة فهو يستخدم الهواتف المرتبطة بالأقمار الصناعية (الثريا) وأجهزة تحديد المواقع (GPS) على نطاق واسع، هذا فضلا عن كونه يتمتع بالاستقلالية والسرعة، وتوفر له طبيعة الأرض إمكانية الدخول من مناطق مختلفة”.
وإلى جانب هذا العدو المتمثل في المجموعات الإرهابية، يواجه التجمع عدوا آخر يتمثل في عصابات التهريب، التي ظلت هذه المنطقة معبرا رئيسيا من معابرها، حيث تجوب شاحناتهم مناطق بين وادان وازويرات، ومناطق الحدود الموريتانية مع مالي والجزائر.
ويقول الرائد سيدي احمد ولد الشيخ، إن المنطقة عرفت نشاطا مكثفا للمهربين في السنوات الأخيرة وشكلت معبرا حيويا لتهريب مواد تموينية مثل المحروقات، والدقيق والزيت والملابس والتي مصدرها الأساسي المساعدات التي يتلقاه الصحراويون.
كما يشمل التهريب مواد تجارية مهربة من موريتانيا مثل السجائر، هذا فضلا عن تهريب المخدرات إلى بلدان المغرب العربي وأوروبا.
عيون مفتوحة وإصبع على الزناد
ويشير قائد التجمع الخاص الثاني للتدخل، إلى أن “ازدواجية العدو هذه تفرض على التجمع البقاء في حال استعداد دائم والاستطلاع المستمر للمنطقة.
ومن أجل ذلك يقوم التجمع بشكل مستمر بمناورات ميدانية بالذخيرة الحية، حضرتم إحداها، كما يقوم بدوريات استطلاع بشكل منتظم، وقد رافقتم ميدانيا إحدى هذه الدوريات في منطقة (تن بالسايس) على بعد ستين كيلومترا غربي لمغيطي.
وتُبقي هذه التدريبات والمناورات أفراد التجمع في حالة يقظة، كما تمكن من المراقبة الميدانية المستمرة للمنطقة والسيطرة عليها وقطع الطريق على كل من تسول له نفسه الدخول إلى الأراضي الموريتانية بطريقة غير مشروعة، سواء كان إرهابيا أو مهربا أو أي شخص آخر”.
وردا على سؤال حول وسائل التمييز بين الإرهابيين والمهربين، وبينهم وبين الأشخاص العاديين، يقول مسؤول العمليات في التجمع إن التمييز بين المجموعات المستهدفة وبينها والعابرين العاديين، يمثل إحدى الصعوبات الحقيقية، إلا أن حدته خفت بعد تحديد نقاط دخول إلزامية إلى المنطقة، حيث أصبح كل شخص يريد الدخول ملزما بالمرور بالنقاط المحددة لذلك، ومن ثم يتم التعرف على كل الأشخاص الداخلين إلى الأراضي الموريتانية قبل أن يدخلوها.
ويضيف أن هنالك مميزات لكل من المهربين والإرهابيين، فالإرهابيون عادة ما يحملون أسلحة خفيفة ورشاشات، ويستخدمون سيارات خفيفة ذات دفع رباعي، ويتوزعون بشكل منظم بحيث تحمل السيارة ما بين 2 و4 ويتنقلون في مجموعات قليلة ما بين سيارتين وأربع سيارات.
أما المهربون فعادة ما يستخدمون الشاحنات لنقل ما يهربون وفي أغلب الأحيان يتنقلون في رتل من السيارات، ولا يكونون مسلحين إلا إذا كانوا محترفين أو يهربون مواد خطيرة مثل المخدرات.
ورغم هذه الفوارق فإن مسؤول العمليات في التجمع، يؤكد أن العامل الحاسم في هذا المجال هو الاستعلامات والقدرة الاستخباراتية، مضيفا أن الجيش الموريتاني حقق الكثير في هذا الميدان.
حماية الوطن والقرب من المواطن
وإلى جانب دوره الأساسي الأمني والقتالي، فإن للتجمع الخاص الثاني للتدخل دورا اجتماعيا لا يقل أهمية، حيث يقدم خدمات أساسية للعابرين وللبدو الرحل المتنقلين في المنطقة.
وفي هذا الإطار يقول مسؤول العمليات في التجمع، إن قساوة وصعوبة المنطقة والعزلة التي تعيشها، عوامل تجعلها قليلة السكان، كما تجعل حياة من يقطنها أو يعبرها جد صعبة، إلا أن وجدود التجمع خفف من تلك الصعوبات، حيث بدأ يقدم الخدمات للبدو في المنطقة.
ويضيف أن هذه الخدمات متنوعة، حيث يضع التجمع الخاص للتدخل وسائله تحت تصرف البدو الرحل، عند الحاجة ويعمل على توفير المياه الصالحة للشرب، كما يضع تحت تصرفهم سيارات ومولدات كهربائية، ومحروقات.
وتشكل الرعاية الصحية محورا مهما في التدخل لصالح السكان والعابرين، إذ يقدم لهم الأدوية والعلاجات، كما يقوم بإخلاء المرضى المحتاجين للإخلاء.
ومساهمة في رفع المستوى المعيشي لهؤلاء، يقوم التجمع بشراء حاجته للإعاشة من الماشية من البدو الرحل وهو ما يوفر عليهم مشقة التنقل بها إلى مدينة أطار أو ازويرات بتكاليف نقل باهظة.
/////////////////////////////////////////////////
“مرابطون” على الثغور
هناك في مهامه ومسارب تيرس، بين التلال والهضاب حيث الوحشة والغربة والرهبة، أناس لا معنى لهذه المفاهيم في حياتهم.
تركت مكانها لمفاهيم أخرى هي: الصبر، والعزيمة، والإصرار، ومواجهة الخطر بصدر مفتوح وقلب لا يعرف الاهتزاز ويد لا تعرف الارتعاش..
هناك في تلك المهامه رجال لا كالرجال: إيمان بنبل الهدف، واستعداد للتضحية، وتشبث بالأرض، وتعلق بالوطن، وانضباط ورحابة صدر و”كبرياء تليق بالفرسان”.
هناك في لمغيطي والحنك، كما في الكاغط، و آركشاش، وزمور، لا فرق بين الليل والنهار لدى جنود وضباط التجمع الخاص للتدخل..
كل الأوقات سيان، أثناء القيلولة وفي جو تقترب درجة الحرارة فيه من الخمسين، يقضي هؤلاء قيلولتهم “تحت ظلال السيوف” وأصابعهم على الزناد..
في عيونهم الغائرة و سحنات وجوههم الصحراوية، تقرأ أسفارا من الاستعداد والإصرار والتضحية والجهاد والصبر.
شمس تيرس الحارقة، وإن تركت أثرها على بشرة هؤلاء الرجال، لم تستطع أن تفل من عزيمتهم، أو تنال من إصرارهم..
خلو الأرض من السكان وانعدام وسائل الترفيه، عوضها هؤلاء بحميمية رفقة السلاح، فامحى تأثير الغربة واختفت أجواء الوحشة..
حنو القادة والألفة بينهم وبين الجنود، خلقت جوا من الأريحية عوض الأهل والأحبة، وحطم جدران “العزلة المكانية”..
في المساء كما في الصباح، مهام هؤلاء معروفة، وبرنامج حياتهم واضح، وهدفهم محدد: إنه السهر على حماية هذا الوطن والمرابطة على ثغر من ثغوره.