يشكل تنظيم الحملة الوطنية لتحصين الأطفال ضد الحصباء هذه الأيام خطوة هامة وإضافة نوعية في مجال مكافحة المرض والإعاقة، خاصة أنها تأتي بعد حملات مماثلة لمكافحة شلل الأطفال والتهاب السحايا والإصابات الصدرية، وتستهدف ثلث السكان المجتمع.
إنها بادرة تأتي في ظرف تكثر فيه الأمراض والإصابات المعيقة والقاتلة في المنطقة، وتكون أكثر فتكا لدى الفئات الهشة.
ويحظى هذا المجهود الوقائي بدعم الشركاء الفنيين: منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة والأمومة (اليونسف).
كما حظيت باستحسان وتجاوب المواطنين الذين واكبوا تلقيح فلذات أكبادهم لدى التشكيلات الصحية والمدارس العمومية والخصوصية.
في مدرسة ابن سينا بحي لاس بلماس بتفرغ زينه تجلس زينب على مقعد تراقب أبناءها الثلاثة، الذين تبلغ أعمارهم 5 و7 و9 سنوات، وهم يتلقون اللقاحات في أذرعهم اليمنى.
وتقول هذه السيدة وهي تمسح على رأس إبنها الملقح وتنتظر اكتمال العملية بالنسبة للآخرين “إنني جد واثقة من فعالية اللقاح وخبرة الوكيل الصحي، ولولا ذلك لما جئت هنا.. لقد أظهرت لنا التجربة أن التلقيح هو الوسيلة المثلى لتفادي المرض والإعاقة وحتى الوفاة، خاصة إذا كان مجانا”.
أما الممرضة بالعيادة المجمعة، كاديا صو فقد ثمنت عاليا تجاوب الأهالي والأسرة المدرسية، خاصة أن هذه الأخيرة وفرت لطاقمها حجرة لاحتضان التجهيزات واستقبال “ملاحظتي هي أن العملية تسير على وتيرة سريعة والأهالي جاؤوا بكثرة إلا أنهم يحترمون الطوابير، ونحن نتوفر بكمية كافية على اللقاحات والمواد السائلة المصاحبة لها، كما أشكر الأهالي على الإقبال الملفت وعلى الإنضباط خلال الطابور.
إن مثل هذا التعاون من شأنه أن يزيد من فاعلية وديناميكية العملية التلقيحية” تضيف هذه الممرضة ذات الثلاثين من العمر أو يزيد قليلا وهي ترتدي بذلة صفراء تحمل إسمها ورقمها والعملية المجندة لها.
وعلى مستوى مدرسة السنابل الخصوصية في سوكوجيم تفرغ زينة يلح الأهالي على إدارة المدرسة لمعرفة موعد قدوم فريق التلقيح كما هو الحال بالنسبة للسيدة ماه التي جاءت صحبة ابنيها، ويرد المدير بأنه تلقى اتصالا هاتفيا بأن الفريق سيزور المدرسة في نفس اليوم أي قبل ثلاثة أيام من انتهاء الموعد الذي كان محدد للعملية.
وعبر كثير من الأهالي عن رضاهم لخيار تبني المدارس كمراكز تلقيحية بدل زيارة المنازل أو البقاء في المراكز الصحية.
وفي هذا الصدد، تقول السيدة آمنة بنت محمد، وهي ربة أسرة وناشطة في المجتمع المدني، “إن التلقيح هذه المرة استهدف فئة عمرية عريضة نسبيا من 9 أشهر إلى 14 سنة، كما أن مسايرته التلاميذ في مؤسسات التدريس هي أنجع وسيلة لضمان تلقيحهم خاصة أن الدراسة تستهدف التكوين الذهني، والتلقيح يستهدف السلامة الصحية، وكلتا العمليتين ضرورية لتكوين أجيال الغد”.
وعقب الدكتور امبارك ولد هميد منسق البرنامج الموسع للتلقيح في وزارة الصحة على سير الحملة والظروف التي أثرت بالتأكيد على السير المنتظم لها وفق الأهداف المرسومة، فأشار إلى أن معظم الولايات سجلت خلال الأيام الأولى نسبا عالية في مجال التغطية التلقيحية مما ينبئ بنتائج مشجعة مع نهاية الحملة خاصة أن فرقا مجهزة باللوازم التلقيحية واللوجستية تجوب حاليا مختلف الحواضر والأرياف.
وعن مدى تفشى مرض الحصباء يقول الدكتور هميد أن هذا الوباء هو الآن آخذ في الإختفاء ولم تبق منه سوى بعض الجيوب القليلة ما يتطلب المزيد من التلقيح والرقابة.
وقال منسق البرنامج الموسع للتلقيح “أنا جد سعيد لعدم ظهور أي حالات عرضية للقاح أو أخطاء تؤثر على صحة الأطفال، وكذا إقبال المواطنين على التلقيح مما ينم عن وعيهم بأهميته كأداة وقائية فعالة”.
وعبر عن اعتزازه بكفاءة وخبرة طاقمه الذي استطاع بجدارة تنظيم عدة حملات تلقيحية في فترة زمنية قياسية مما يساهم في تسريع أهداف الألفية للتنمية لاسيما تلك المتعلقة منها بالصحة وخصوصا تقليص الإصابات المرضية والوقائية في صفوف الأطفال والأمهات.
وأضاف الدكتور امبارك أن البرنامج الموسع للتلقيح يمتلك طواقم فنية متمرسة تحظى بمصداقية وتقدير لدى الشركاء في التنمية والهيئات والمنظمات العاملة في مجال التلقيح.
وأعلن المنسق أن الخامس من دجمبر 2014 سيشهد إضافة لقاح جديد لمكافحة الإسهالات لدى الأطفال إلى أجندة البرنامج التلقيحي الروتيني.
أما الدكتور ناصر الدين ولد زيدون مسؤول التلقيح والتغذية لدى ممثلية منظمة الصحة العالمية في موريتانيا فقد استعرض أعراض المرض الذي وصفه بأنه فيروسي ومعدٍ يبدأ بحمى وسيلان في الأنف والتهابات في العيون وسعال وظهور بقع بيضاء في الفم.
وأضاف أنه بالرغم من الحملات الواسعة والتغطية الشاملة باللقاح المكافح للمرض لا يزال وباء الحصباء يسجل بأعداد كبيرة ويسبب وفيات عديدة.
وشدد على أن الحصباء إذا لم تتم معالجتها بشكل سريع يمكن أن تتسبب في ظهور أمراض أخرى كالعمي والصمم واختلالات في الوظائف الدماغية وحتى الوفاة المؤكدة.
وعلى الصعيد القاري، أوضح الدكتور ناصر الدين أنه خلال الفترة ما بين 1980 – 1989 تم تسجيل معدل الإصابة بمليون حالة مؤكدة أو مشتبه فيها على مستوى القارة الأفريقية، ومن ثم تراجع هذا المعدل الشهري إلى 450 ألف حالة خلال التسعينات، وإلى 250000 خلال الفترة ما بين 2000 و2006 حتى وصل إلى معدل يقل عن مائة ألف خلال الفترة ما بين 2006 – 2009.
وعلل هذا التراجع إلى استمرار وتكثيف العمليات التلقيحية التي شملت 445 مليون طفل منحدرين من 45 بلدا أفريقيا خلال الفترة ما بين 2001 و2010.
وقال إن العمليات التلقيحية الإضافية مكنت من تحقيق إطار مرجعي، وأعطت نتائج مهمة من حيث الكلفة والفاعلية، كما أعطت انعكاسات جد إيجابية على مستوى نمو وبقاء الطفل.
وبخصوص انعكاس الحملة وإسهامها في بلوغ أهداف الألفية للتنمية في مجال الصحة، أشار مسؤول منظمة الصحة العالمية إلى أن المنطقة الإفريقية تبنت سنة 2001 خيار تقليص إصابات الوفيات الناجمة عن الحصباء، وأعدت لذلك استراتيجية تراعي توصيات منظمة الصحة العلمية واليونسيف مما مكن من تراجع العدد التقديري لعدد الوفيات خلال الفترة ما بين 2000 و2008.
وعلى الرغم من هذا التراجع الملحوظ لحالات الوفاة الناجمة عن الحصباء إلا أن الواقع يظهر أن النشاطات التلقيحية الإضافية ونوعية الرقابة على المرض لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب في القارة الإفريقية الذي يمكن من الحيلولة دون الأوبئة الارتدادية، يضيف الدكتور ناصر الدين، مؤكدا أن 28 بلدا إفريقيا شهد سنة 2010 ظهور أوبئة كاسحة من الحصباء.
وعلى مستوى موريتانيا أشار إلى أن الحملة لا تزال مستمرة وتستهدف 1.417.788 طفلا تتراوح أعمارهم ما بين 9 أشهر و14 سنة وأنها لم تنجم عنها حالات إصابات عرضية.
كما أعرب عن ارتياحه لتجاوب السكان مع المجهود التلقيحي في الولايات الداخلية مما مكن من تسجيل غطاء تلقيحي يصل إلى 95% رغم كون النتائج النهائية لم تعرف بعد.
وأرجع النجاحات المسجلة خلال الأشهر الأخيرة إلى الحملات المتكررة لعدة لقاحات في فترات متقاربة، وإلى الإرادة السياسية القوية لدى السلطات العليا للبلد في الرفع من المستوى الصحي بشكل عام ولدى الأطفال والأمهات بشكل خاص، كما تعود إلى ديناميكية وخبرة طاقم وزارة الصحة وخاصة إدارة الصحة القاعدية، والتنسيق المحكم والوثيق مع الشركاء الفنيين والماليين.
وشدد الدكتور ناصر الدين على ضرورة استثمار هذه الإرادة السياسية القوية ودعم الشركاء لتعزيز دفع النجاحات المحققة سبيلا إلى التحكم والسيطرة على الأمراض التي تمكن الوقاية منها من خلال التلقيح.
محمد عبد الرحمن