برأيي أن ممارسة الحق في التعبير الحر يجب أن تحترم للآخر حقه في الاختلاف وفي تبني الرأي المغاير ولكن في إطار احترام التعددية وإتقان فن الاختلاف بما ينفع الناس، لا بما ينعكس سلبا على هذا المكسب الثمين الذي يجب أن نتقنه وأن نصونه في آن معا، دون أن نتعصب لرأي ولا لموقف، وتلك هي الديمقراطية التعددية التي اختارها شعبنا منهجا للحكم ولممارسة حق الاختلاف…
وأعتقد أن مقولة الإمام الشافعي رضي الله عنه كانت أفضل تعبير عن ضرورة احترام الرأي الآخر: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، ولكل منا اجتهاده الذي قد يختلف جذريا عن رأي أخيه لكن هذه الآراء على اختلافها وتعددها تصب جميعها في خدمة مصلحة الوطن والشعب، أو هكذا يجب أن يكون عليه الأمر.
وهنا سأختلف قليلا عن بعض الآراء التي تحاول “سحب مشهد إقليمي والوضع في بلد شقيق على الوضع في موريتانيا”. وباعتقادي، فإن الحريات في موريتانيا مصانة، حيث نتناول في المنابر السياسية والإعلامية وحتى الثقافية أروع تجليات اختلاف الرأي والتعددية، وننتقد رأس السلطة لدرجة التجريح الشخصي دون أن يصادر “رأينا” على حدته، ويتم تناول كافة الملفات الحساسة في مختلف وسائل التعبير دون مضايقة، ولا يوجد سجين رأي واحد على عموم التراب الوطني، حسب معلوماتي المتواضعة، كما أن القانون يطال الجميع وليس حكرا لفئة أو لطائفة على حساب باقي مكونات شعبنا، والبلد لا تحكمه عوائل ولا مجموعات بل يحكمه القانون، كما أن السلطة الجديدة تجتهد – ولكل مجتهد نصيب – في حل مشاكل بلد عانى منذ 50 عاما من غياب مفهوم الدولة ومن الفوضى والتسيب، وهي تعمل على تغيير المشهد وإعطاء الأولوية للمواطن الذي ظل صفرا على الشمال في معادلات الأنظمة الوطنية المتعاقبة على السلطة، على اختلافها.
وهنا أرجو لمن يخالفني الرأي أن يقبل برأيي، كرأي آخر، وأن لا يعتبره أكثر من مجرد اجتهاد في استيعاب أبجديات المشهد الوطني، وله أن يقرأه كما يراه، لأنني سأحترم قراءته حتى ولو اختلفت معها جذريا.
أقول إننا في بلد يتلمس خطواته الأولى والواثقة نحو تغيير جذري، سيعتبره الكثيرون على حسابهم، ولكنه في نهاية المطاف يخدم مفهوم الدولة ويضع حدا نهائيا لبعض الممارسات التي لا يمكن أن ترى النور في دولة قانون ومؤسسات حقيقية، وهذا البلد بحاجة لكافة أبنائه مهما اختلفت عناوينهم ومواقعهم وقراءاتهم للواقع، لأننا في نهاية المطاف مواطنون في بلد واحد، وما قد يتضرر منه هذا البلد سينعكس على الجميع سواء كانوا في الموالاة أو في المعارضة.
إذن، حرية التعبير مكفولة في موريتانيا، والأحزاب تمارس نشاطاتها دون عقبات، والصحافة تكتب ما تشاء دون مصادرة ولا مضايقة، بل وتتناول أعضاء الحكومة بالنقد الذي قد يتجاوز حدود اللباقة في بعض الأحيان، ومع ذلك فلا تضايق تلك المنابر الإعلامية الحرة، كما أن المعارضة تنتقد وتزيد دون مضايقة ولا محاسبة.
فما الذي يجعلنا نقارن بين الوضع في موريتانيا ونصفه با”المتأزم”، وبأننا “على وشك ثورة شعبية إذا لم نبادر إلى تصحيح الأوضاع”؟!، أعتقد أن في هذا الإدعاء مبالغة، وإن كنت مع العمل الدؤوب والجاد للتحسين المستمر من أوضاع المواطنين من خلال: الحد من البطالة، واتخاذ إجراءات وتدابير عملية للقضاء على الفقر والجهل والأمية والمرض، وانتهاج سياسة اجتماعية ناجحة للتحسين من ظروف الفئات المحرومة والعمال، عبر خلق فرص للعمل وإنشاء مشاريع مدرة للدخل، وزيادة الرواتب والحد من تأثير الارتفاع المتزايد للأسعار على المستوى الدولي وخلق بدائل ناجعة لمواجهة هذا الإشكال، كما أنني مع الرأي الآخر الذي يطالب بأن لا تكون ممارسة حرية التعبير أداة لممارسة أشكال أخرى من الظلم، فحرية التعبير لوحدها ليست كفيلة بالقضاء على الفقر وعلى أنواع المعاناة التي يكون سببها تخلي بعض الأنظمة عن دورها في حماية المواطنين وتوفير الصحة والغذاء والسكن اللائق والخدمات الضرورية الأخرى لهم، فالحرية هي مكمل فقط على أهميتها.
أعود لأقول إن موريتانيا تحظى بمكاسب نادرة لا يجوز التفريط فيها، وما علينا سوى مضاعفة الجهد، على المستوى الرسمي، ومضاعفة توجيه النقد الموضوعي والبناء للسلطة حتى تواصل مسيرة البناء، وعلى المعارضة أن تمارس حقها في النقد الدائم حتى ولو رأت أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح لأنه من المفترض أنها تطالب دائما بالمزيد من البناء ومن الانجازات لشعبها ولكيان الدولة، وإذا استطعنا أن نحافظ على هذه المكاسب فإننا نستطيع أن نتطلع إلى تحقيق المزيد في جو ديمقراطي وفي بلد تعددي يحترم أبناءه ويعاملهم على قدم المساواة مهما كانت انتماءاتهم السياسية، أو مواقفهم من نظام الحكم ومن مسيرة البناء والتنمية الوطنية.
في دول أخرى، يمكن أن تتحرك الشعوب لأنها تُحكم بقبضة أمنية لا مجال فيها للرأي ولا لحرية التعبير، ولا للمنافسة، سياسية كانت أم اقتصادية، حيث يظل الحاكم هو نفسه، أما هامش الحرية المتاح للسياسيين ولأصحاب الرأي ولرجال الإعلام فهو ذلك الذي يجود به الحاكم دون زيادة أو نقصان، ومن تجاوزه فمصيره السجن أو الاختفاء إلى الأبد،!! فهل يمكن أن يقارن الوضع في بلدنا بالأوضاع في تلك البلدان التي تعيش مثل تلك الظروف والأوضاع الصعبة.
لا وجه للمقارنة، بين مشهدنا الوطني والوضع في بلدنا وبين الأوضاع في بلدان أخرى أراد البعض أن يشبّه بها “الحالة الموريتانية” مع احترامي الشديد للرأي الآخر، كما أسلفت.
الموضوع الموالي