AMI

ما خلق الله الشعوب عبثا

ما خلق الله شيئا عبثا، وما خلق الله الشعوب عبثا، بل خلقها ـ سبحانه ـ لحكمة بالغة جهلها من جهلها وعلمها من علمها، فإن مما علمنا منها ما ذكر الله تعالى في كتابه من أنها خلقت للتعارف ولحمل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
ومع ذلك فإن للشعوب، من غير هذه الفوائد السامية، فوائد أخرى أَمَسُّ بالأرض نذكر منها الآن ما سمح به الوقت.
فأول هذه الفوائد أن الشعوب هي أهم مقومات الدول فلا يمكن أن توجد دولة بلا شعب، ولو أنها وجدت لكانت أسعد دولة في الكون، ولم نسمع قط بدولة لا شعب لها إلا ما ذكر الكاتب الفرنسي انطوان سينت اكشبري في قصته المشهورة “الأمير الصغير” إذ ذكر فيها أن ذلك الأمير مرَّ في تطوافه بين الكواكب بكوكب يسكنه ملك منفرد لا رعية وأنه فور ما أبصر الأمير الصغير صاح: “ها قد جاء آخر رعيتنا”.
ولشدة ارتباط مفهوم الدولة بمفهوم الأمة ـ وهي الشعب ـ نشأ في أوائل القرن التاسع عشر مفهوم جديد هو مفهوم الدولة ـ الأمة ولا يزال هذا المفهوم مغروسا في جميع الدول قائما وقاعدا تطارده مفاهيم الأممية والعولمة فيظل في وجهها صامدا صابرا.
ومن فوائد الشعوب كذلك أنها هي العلة الغائية والأرضية المؤسسة لجميع السياسات المنفذة على أديم الأرض منذ قيام التاريخ إلى يومنا هذا، فباسم الشعوب توضع السياسات وباسمها تنفذ، فكثرى شيرويه قتل أباه إبرويز باسم شعب فارس وفرعون مصر إنما اضطهد كليم الله لأن كليم الله في زعمه ـ أراد أن يبدل دين شعوب مصر ويظهر في الأرض الفساد، والحملات الاستعمارية إنما جاءت ـ رسميا ـ لتنقذ الشعوب “المتخلفة” من دركات التخلف وتلحقها بالركب المتحضر، وتبدلها من حضارتها الهمجية البدائية حضارة نيرة جديدة عصرية…
ومن فوائد الشعوب أيضا أن الشعب منها قد ينبغ فيه العالم والفيلسوف والمبدع فيحكم على ذلك الشعب كله بأنه شعب عبقري ذكي فيسر بذلك على ما في ذلك الشعب من البلادة والجهالة والفسولة والرعونة…
ومن فوائد الشعوب ـ وما هي بأدناها ـ أنها مشجب تعلق عليه الطموحات الفردية، والمطامع الأنانية، فتحور تلك المطامع والطموحات على أنها تطلعات الشعب الحقيقية ورغبته العميقة، وأن ما سواها ديماغوجية وأكاذيب سياسية يكذبها شاهد الحس والعيان.
ومن فوائد الشعوب أنها خلقت معصومة، ولو كانت جاهلة لا تعرف الكوع من البوع لا تخطئ ولا تضل ولا تزيل ولا تطلب حراما ولا ترغب في محال، ولا تبالغ في طلب حق هو لها.
ومن أهم فوائد الشعوب أنها إذا أرادت الحياة فغالبا ما يستجيب لها القدر فينكسر القيد وينجلي الليل على حد تعبير الشاعر الشاب الشابي رحمه الله، وهو قول صدقته الأيام والأحداث، وقديما قيل إن للشعراء عيونا ينظرون بها إلى الغيب من وراء ستر رقيق.
ومن منافع الشعوب في الحقل الدبلماسي أنها تكون ملجأ آمنا في تحديد المواقف السياسية في حالة حدوث اضطرابات سياسية لا يدرى فيها الغالب من المغلوب بادئ بدء، فتصدر بيانات صحفية وتصريحات رسمية بأنَّا “مع الشعب الفلاني الصديق، ونحترم اختياراته ونحيي شجاعته..”
حتى إذا تخلصت قابية من قوب، وعرف الغالب من المغلوب فيومئذ لا أخوة ولا شعوب، بل هنيئا لك يا غالب، وتبا لك يا مغلوب…. أما الشعوب فلتذهب مقبوحة مشقوحة … إلى لعنة الله فقد انتهى دورها في هذه إلى أن تأتي أخرى مثلها.
ولا تنس أن من فوائد الشعوب أنها تكمن فيها معجزات تذل الجبابرة وتزيح الطواغيت، تكمن فيها تلك المعجزات كمون الناس في الحجر يراه الرائي حجرا صلدا أحمر لا يسمع ولا يبصر حتى إذا أَوْراهُ زناد المحن، وتراكم النقم، انفجر بالنار انفجار البركان يسمع ويبصر، فتنكس الأعلام وتكسر الأصنام وعلى رأسها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
ومن فوائد الشعوب أنها ـ على سذاجتها تعلم المفسد من المصلح، ولا ينطلى عليها زيف ولا يجوز عليها بهرج، وقد تصفق وترقص، ولكن رقصها وتصفيقها لا ينفعان إلا ساعة الرخاء، أما في وقت الشدة فلا يغنيان شيئا.
ومن فوائد الشعوب ـ أخيرا ـ أنها لا تضل ولكنها تنسى: لا تضل عن الحق والصواب أبدا لأنها تدركها بالغزيرة والحدس، والغزيرة والحدس لا يخطئان عكس العقل والرؤية.. وهي تنسى سريعا ـ وعسى أن يكون ذلك خيرا فالنسيان من نعم الله كما يقال. تنسى من أحسن إليها أو ضحى في سبيلها، ولذلك لا يخدمها على الحقيقة إلا من لا يريد على سعيه جزاء ولا شكورا، حتى إن بعضهم شبهها في تعاملها مع من أحسن إليها، بالكلب العقور، إنه لا يفرق بين اللص ورئيس جمعية الرفق بالكلاب. الكل ينبح والكل يعض.
فهل علمت ـ بعدما سمعت ـ إن الشعوب لم تخلق عبثا وأن ذلك هو السر في ضعفها وفي قوتها معا وتبارك الله أحسن الخالقين.
محمد فال ولد عبد اللطيف

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد