بقلم: المختار السالم
elmoctar@gmail.com
يقول جبران خليل جبران إن “الحق يحتاج إلى رجلين: رجل ينطق به ورجل يفهمه”.
وأعتقد أن الناطقين بالحق أقل دائما ممن يفهمونه، فما بالك بالذين لا يريدون فهمه إذا شكل تناقضا صارخا مع مصالحهم.
يحدث ذلك في أطياف من النخبة الوطنية لا تحب قول الحق ولا ترضى بفهمه، لتصورها أن الربح من الباطل أسرع من انتظار ثمار الحق حتى تنضج، وتسعى تلك “الأطياف” بناء على ذلك لتشبيع “الزمن الغوغائي” بكل مورثات “سوء الفهم”، إلا أن على الإنسان العاقل أن يخرج كالعادة من “ضوضاء” الصمت ليقول الحق دون خوف ولا وجل.
إن الكثير من الملفات الحقوقية والإنسانية تثار من حين لآخر في البلد على خلفية وقائع معروفة، ثم تصبح تلك الملفات ورقة رابحة للمنظمات الدولية التي يجب أن لا ننسى أنها تحصل على التمويلات من الأفراد والمنظمات والشركات والحكومات على أساس قيامها “بدور معين”. ونفس الشيء ينطبق على الكثير من المنظمات الداخلية التي تذوقت “طعم” المال الخارجي ومن الصعب “فطامها” عن مصدر رزق واسع وسريع.
ولكن مكمن الخطر هنا أن كثيرا من هذه الملفات يتحول من ملف حقوقي محض إلى ملف خارج نطاق ذلك التحديد، أي يصبح ذا طبيعة سياسية أو ثقافية أو شرائحية أو عرقية، حيث يتم تحويله إلى ملف مستديم بناء على “التحول” الذي أجري على أصول وواجهة الملف. وبذلك تفتح نافذة التدخل الخارجي الذي لم يأت بأي نتائج إيجابية في أي بلد من بلدان الجنوب، والدليل على ذلك ما عاناه أشقاؤنا في بوروندي والكونغو وليبريا والصومال… واللائحة طويلة. فماذا فعلت لهم تلك المنظمات والقوى الأجنبية التي ظلت تشجع على تنمية الخلاف حتى لم يعد الدم كافيا لغسل أدران الكراهية بين أبناء الشعب الواحد.
نحن في موريتانيا منذ خمسين سنة ندفع ثمن التدخل الخارجي الحقوقي والإنساني، وكل ما تم سد باب انفتحت نوافذ وأبواب جديدة لدرجة تحول فيها “بيتنا” إلى مجموعة من حطام الأبواب والنوافذ فعششت فيه أبنية العناكب وباض “الحمام” الخارجي مطمئنا إلى سلامته بل وحصانته من أن نقول له “كفى”.
ولكن في موريتانيا اليوم، ولأول مرة خلال تاريخها، يحصل إجماع تام بين الطيف الوطني بكل تنوعه ومشاربه السياسية والعقائدية والاجتماعية على مبدإ ضرورة محاربة كل مخلفات الإرث الحقوقي، الذي لم يعد تبنيه ميزة لحزب أو قوة سياسية دون أخرى، بل أصبح أداة بيد الجميع مع الاختلاف الطبيعي حول الرؤية والإستراتيجية الأمثل للمعالجات المنشودة.
ولعل بعض الجهات تسعى لتفكيك هذا الإجماع بغية العودة إلى المربعات الأولى والدوائر المغلقة حيث كانت تنتجع ارتزاقا وتحصيلا من بث الفرقة، فتحصل على الدعم المعنوي والمادي من “القوى العابرة للحدود والحقوق”، وفي نفس الوقت كانت تتم محاولة إسكاتها من الداخل عبر “مكافآت” ظاهرية أو باطنية.
ما نريده “الآن” هو الاطمئنان إلى أن عهد شراء الصمت قد ولى وإلى الأبد، فيجب أن لا يكسب مواطنون موريتانيون رزقهم على حساب حقوق مواطنين آخرين مثلهم، أحرى أن يكسب آخرون على حساب سمعة البلد وكرامة المجتمع.
ما نريده كذلك، وهو أهم، أن لا يسمح باستخدام المال الخارجي لتمويل التفرقة والعنصرية والكراهية في أسرتنا الواحدة التي حكم عليها الدين والنسب والتاريخ والجغرافيا بالوحدة الأبدية، ومن حق المواطن البسيط الاطلاع على حقيقة الأشخاص الذين يتنقلون بين عواصم وفنادق العالم مقيمين وعابرين وسائحين وهم “يطقطقون” بحقوق الإنسان الموريتاني المسكين. ألا يتناقض ذلك المال الحرام الذي يحصلون عليه خارج السيطرة أو الرقابة، مع الوطنية والسيادة ومبدأ حقوق الإنسان.
إن ترك باب “الثراء الحقوقي” مفتوحا أمر في غاية الخطورة، وسيكون، كما كان، آلة الهدم الأولى في جرف مساعي التغلب على مخلفات الإرث الحقوقي.. إن لم يقع ذلك فما نقوله ليس بحق، وسنبقى- إلى حين- بحاجة ماسة لكل رصيدنا من استيعاب التكلفة الجزافية لـ “فهم الحق”.