سأنأى عن العودة إلى “لسان العرب” ومعاجم اللغة وما أوردته في تفسير معنى الاستقلال، مكتفيا بآخر تفسيرين محدثين له يحصران معنى الاستقلال في “الانفراد بالأمر”.
وقد جاء في معاجم اللغة الحديثة: “استقلت الدولة: استكملت سيادتها وانفردت بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية، لا تخضع في ذلك لرقابة دولة أخرى”.
ويشمل هذا الاستقلال كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية وغيرها، مما يجسد مصداقية التحول من نير التبعية إلى فضاء الانعتاق والتحرر.
وينقسم الاستعمار إلى قسمين: الاستعمار القديم، وهو التسلّط المباشر، ويتحقق عن طريق الغزو العسكري، وقد عَرَفَهُ العالم الحديث حيث استعمرت فرنسا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وهولندا وغيرها بلدانًا عديدة بدوافع اقتصادية ودينية.
والاستعمار الجديد، وهو التسلّط غير المباشر، وقد عرّفته (الموسوعة الثقافية) بما نصّه: “الاستعمار الجديد ما هو إلاّ أحد أشكال السيطرة الاستعمارية التي لا تعتمد على التحكّم السياسي المباشر أو التواجد العسكري الواضح، ولكنه يقوم على السيطرة الاقتصادية والاجتماعية”.
وفي معجم المصطلحات السياسية والدولية: “الاستعمار الحديث فرض السيطرة الأجنبية من سياسية واقتصادية على دولةٍ ما، مع الاعتراف باستقلالها وسيادتها دون الاعتماد في تحقيق ذلك على أساليب الاستعمار التقليدية، وأهمها الاحتلال العسكري”.
ويستخدم الاستعمار الحديث في تحقيق أغراضه وسائل خاصة لتحاشي المعارضة الشعبية الصريحة أو معارضة الرأي العام العالمي. ومن ذلك عقد الاتفاقات الثنائية غير المتكافئة مع الدول المستقلة افتراضا عن هيمنته.
وتعمل النخب الوطنية في كافة الدول المستقلة حديثا على استعادة الخصوصيات الوطنية والثوابت التي تميز الشعب والأمة عن بقية الأمم عن المستعمر بصفة خاصة، كما تعمل جاهدة على بناء الدولة المستقلة على أسس وطنية خالصة في مختلف المجالات التنموية.
وقد لا يعني الاستقلال بالضرورة قطيعة مطلقة مع المستعمر وخاصة فيما يمكن تسميتها بإيجابياته، وبالتعاون البناء بين بلدين خضع أحدهما لهيمنة الآخر في ظرفية زمنية معينة، لكن هذا الاستقلال ينأى دائما بالبلد المستقل عن العودة إلى عهدة المستعمر سياسيا أو ثقافيا أو اقتصاديا أو فكريا، وهو ما يميز مصداقية الاستقلال الحقيقي عن التبعية المبطنة والتي يظل فيها المستعمر حاضرا بقوة في كافة تجليات المشهد الوطني العام للدولة المستقلة افتراضا، وحتى في القرار السياسي، بل ويصل الأمر أحيانا درجة الاستلاب الثقافي الذي يجسد أوضح معاني التبعية لا الاستقلال.
وفي بلدنا، لم يستطع المستعمر الفرنسي أن يستقر في هذه الربوع، حيث تحوّلت المقاومة المسلحة والمقاومة الثقافية التي واكبت دخول الفرنسيين عام 1900 إلى مقاومة سياسية قبل أقل من ثلاثين سنة من الاستقلال، وقد كبدت المقاومة المسلحة، التي استمرت لأزيد من ثلاثة عقود، المستعمر خسائر فادحة تحدث عنها مؤرخو الحقبة الاستعمارية بوضوح، كما شلت المقاومة الثقافية قدرة المستعمر على التغلغل والمناورة والحركة، وخيبت آماله في تحويل الشناقطة عن دينهم وثقافتهم العربية الإسلامية وخصوصياتهم الوطنية، وهو ما جعل نخبه محاصرة تماما ومشلولة بشكل شبه كامل حتى تخلص من “عبء احتلال موريتانيا” في 28 نوفمبر 1960.
ورغم المقاومة المسلحة والتصدي لمخططات الاستعمار الثقافية وغيرها، فإن الاعتذار عن حقبة الاستعمار وعن امتصاص ثروات البلد طيلة عقود من التبعية والتسلط يظل مطلبا ملحا لكافة النخب الوطنية الغيورة على المحافظة على الهوية الوطنية والدفاع عن ثوابت وخصوصيات شعبنا وبلدنا وإعادة الاعتبار له، ولا تنتقص تلك المطالبة المشروعة من أهمية العلاقات الثنائية الممتازة بين المستعمر السابق والبلد المستقل.
ولا شك أن الخطوات الحثيثة التي تسير بها بلادنا حاليا في اتجاه تجسيد الاستقلال والتميز تستدعي تضافر جهود كافة أبناء موريتانيا في سبيل تحقيق تلك الأهداف الكبرى التي تُعمّق أسمى معاني الاستقلال سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا، وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة لأمة أعلنت استقلالها وخلاصها من الهيمنة الأجنبية منذ خمسين عاما.
الموضوع السابق
السيد سيدي ولد الداهي يتحدث للشعب على الأحزاب السياسية أن تلعب دورا فعالا في تثقيف وتوعية الجماهير
الموضوع الموالي