بقلم: بابا الغوث
حب الوطن، هذا العنوان البارز ظل لوقت طويل المادة الدسمة التي اشتغلت بها الأقلام في طول الأرض وعرضها وكانت خميلة الخطب السياسية ومعينها الذي تستقي منه، وما عرفت الحضارة الحالية موضوعا استأثر بالاهتمام أكبر من موضوع حب الوطن.
كان حقلا غنيا بالمعاني المثيرة والمجيشة لكوامن النفس البشرية. لذلك اتخذه السياسيون قاعدة تربوية لإذكاء جذوة الحماس وتعبئة الشعوب التي تعاني من ضمور سيادتها على أوطانها.. وتلك التي سلبت سيادتها أصلا وهي في حالة تطلع وتحفز للنهوض من أجل استرجاع السيادة على أوطانها وعلى أنفسها.
وقد استطاعت شحنة المعاني التي احتواها ذاك التركيب اللغوي (حب الوطن) أن تحول الشعوب إلى قوة خلاقة لا يقوم لها شيء.
الأمر الذي جعل المستعمرين يدركون أن لا قبل لهم بذلك الغليان الجامح الذي يسترخص الغالي والنفيس من أجل الوطن.
ومن شحنة المعاني تلك تحويل العلاقة بالوطن من التزام اختياري تمكن المناقشة بشأنه لأنه يظل في حدود التزام الساكن للمكان الذي يسكن فيه مع إمكانية التخلي عنه لسبب أو لآخر، إلى معاني لا تجتاز الالتزام.. بل ولا توليه أدنى اهتمام أحرى أن تحفل به.. إلى معاني تخالط النفس حتى تملأ كيانها بصورة كلية، وتذوب في الدماء فتمتزج بها امتزاج الماء باللبن.
إنها معاني تكون هذا الكائن العجيب الذي عرفه الأقدمون بالحب ولا نعرف له إسما غير هذا الاسم.. ولن يعرف له اسم غيره أبدا، ذلك لأنه جوهر ولا يمكن لجواهر الظواهر أن تتبدل بأسمائها أسماء جديدة لأن ذلك خارج عن حيز الإمكان.. ولأنه سوف يسبب انهيارا رهيبا سينسف ما عرفناه عن الكون حتى الآن فلم نعد نعلم بعد علم شيئا وذلكم العمه بجميع أبعاده أعاذنا الله منه.
إن الحب طاقة شفافة وظيفتها الاستيلاء الكامل وإلى مستوى أشد التفاصيل دقة، على البعدين في الكائن البشري، اللذان ينتظمان كيان الإنسان.. ألا وهما: البعد العقلي والبعد العاطفي، وهذان هما الحقيقة الكلية للإنسان.
وإذا ما تم الاستيلاء عليهما تم الاستيلاء على إرادة الإنسان وجميع ميوله، وأمكن إذ ذاك توظيفه عمليا واستغلاله بكفاءة عالية حتى يعطي ما بحوزته من الطاقات بإخلاص منقطع النظير. ولا يطور الإنسان تطويرا حاسما غير دافع الحب.
لذلك حرص المربون السياسيون على تجذير الصلات بالوطن إلى حب راسخ مكين يأخذ المواطن على نحو شامل فلا يترك منه شيئا خارجا عن مصالح الوطن. وكيف لا وقد تحول الوطن إلى محبوب يهيمن على النفس ويترسب في المشاعر ويشحن العقل ولن تتضح لك قوة هذا الحب (حب الوطن) إلا إذا اطلعت على التضحيات الجسام التي قدمها المحبون لأوطانهم أثناء الصراعات على حرية الوطن في مشارق الأرض ومغاربها.
هذه المعاني سوف لن تشكل في أذهاننا- نحن الموريتانيين- أكثر من كونها أفكارا نظرية يمكن لأحدنا أن يظل يستمع إليها دون أن يحرك في جسمه شعرة واحدة، ولكن بالتأكيد معذورون في ذلك كثيرا.
معذورون لأننا لم نتعرف على الحب بمعانيه الكاملة. الحب كظاهرة انتهى خبر وجوده إلى مسامعنا كما سمعنا عن ظواهر أخرى مشابهة كالخلق والصدق والإيباء والعفاف، ولكننا لم نتعرف على ذلك من خلال الممارسة الحيوية حيث تتجلى ماهية هذه المفاهيم حتى تصبح معروفة بالدقة اللازمة التي نجعل منها عناصر مؤثرة يحس الإنسان بقوة تأثيرها فتثيره أو تستجيشه لأمر يعنيه في فترة بعينها كما يفعل الحب بالمحب، والخلق بالخلوق والصدق بالصادق والإيباء بالأبي، والعفاف بالعفيف. نحن معذورون لجهلنا لحقيقة هذه الظواهر، ورغم أن القول بعد العذر بالجهل يظل أشد رجحانا لأن الجاهل السليم الحواس في إمكانه أن يتعلم، والواجب يحتم عليه أن يتعلم، وإنما اختار الجهل بمشيئته لهذا السبب أو لذلك، فعذره بالجهل ليس له أساس يستند عليه، ولهذا الاتجاه بعد يدعمه.. لنفترض أن شعبا بأكمله أو بجله.. لا أقول اختار الجهل.. ولنقل لم يشتغل بالتعلم وكان الجهل له بالمرصاد لأن الذي لا يشتغل بالعلم سوف يعيش جاهلا دون شك، أو يمكن أن تعذر هذا الجم الغفير من الناس بالجهل؟ إذا كيف سنطبق أحكام الشرع على هؤلاء وهم يجهلونها كأسوء ما يكون الجهل؟! نحن لم نتعلم معارف تخولنا الاطلاع على معاني الحب.
العامل الثاني لم تظهر في بلادنا مدرسة سياسية مهمتها تدريس المفاهيم السياسية الوطنية كمفهوم الوطن والوطنية، وجدارة الوطن بالحب لأنه وطننا الذي يحتوينا ومن خيراته نعيش وعلى ربوعه نقيم وجودنا وحضورنا المادي.. وبه نعرف وإليه ننتسب. وإذا ما اذللنا فيه أو احتل كان ذلك سببا في انتزاع سيادتنا وإذلالنا وتسخيرنا على يد المحتل. لم ندرس هذه المعاني.. وبما أن الفكر السياسي والثقافة السياسية سوف يكون من حظها الجهل إذا لم تعلما، وهذا هو الذي حصل بالفعل، ولا تزال أعشاشه قائمة في طول البلاد وعرضها وكنتيجة مباشرة لهذا الجهل الشنيع نحن لا نعرف قليلا ولا كثيرا عن حب الوطن.. ومن أين لنا بمعرفة حب الوطن!؟
زد على ذلك أننا نحن بداة.. والبدوي قليل الاستقرار بطبيعة الأسلوب الذي يزاول به حياته.. فهو إما مشرق خلال فترة من السنة أو مغرب.. أو نازح إلى الجنوب أو إلى الشمال، وبواعثه في هذا الأسلوب المتباين هو البحث عن الكلأ والماء.. فحيث يوجدان ذلك الوطن.. وهما لا يوجدان في مكان بعينه بصورة دائمة.. بل يوجدان في المكان ويخلوان منه فترة أخرى وهو هواه فيهما حيث كانا.. شمالا أو جنوبا أو شرقا أو غربا.إذا مفهوم الوطن لدينا مفهوم هلامي ليس له معنى ثابتا مرتبطا بأرض بذاتها، فصلة الغزال بوطنه أشد قوة من صلتنا بوطننا.. الغزال يصبر على المحل الشديد في وطنه فلا يبرحه أبدا أما نحن فلا وطن لنا إلا حيث نسميها وحيث تسمن وتلبن.. ولا يغتر أحد بحالة الاستقرار التي ظهرت بعد الاستقلال.. فالثقافة والسلوك بدويان، لا غبار عليهما.. وحالة الاستقرار لا تشكل ارتباطا أصيلا بالأرض.. وإنما الذي يشكل ارتباطا أصيلا بالأرض هو حب الوطن هل سنحب أوطاننا؟!.
الموضوع السابق
الموضوع الموالي