بقلم: محمد فال ولد عبد اللطيف
رحمى لك يا ميزانية الدولة! لا تكادين تخرجين إلى حيز الوجود حتى تتلقفك الأولويات والمفاقر فاغرة أفواهها كل واحدة منها تقول بلسان قالها وحالها: ما في المدينة أحوج منا يا رسول الله.
ومعلوم أن أصحاب هذه الأولويات وحاملي هذه المفاقر لا يعنيهم من الميزانية إلا جانب الإنفاق وصرف الاعتمادات ولا يعنيهم كيفية تحصيل الموارد ولا يفكرون أبدا في المشاكل والصعوبات التي تقوم هنالك في عالم يزداد كل يوم تعقيدا ويكاد اقتصاده ينهار بالمرة لولا لطف الله وجهود المصلحين.
وبالرغم مما قيم به مؤخرا من جهود إصلاحية في ميدان تسيير الدرهم العام وإخضاعه إلى قدر لا بأس به من الشفافية والموضوعية، فإنه يجب أن لا ننسى أنه لا يزال طائفة من الناس ينتظرون إصدار ميزانية الدولة شاحذي مواسيهم، يزف بعضهم إلى بعض البشرى: “أما علمت أن الميزانية قد تم وضعها بارك الله فيها وجعل إذاقها خيرا!”.
ومادام تنفيذ الميزانية من الصعوبة بمكان لأن الميزانية بمثابة فريضة زاد عدد أهل سهامها على المألوف فاستغرقوا التركة كلها مع أنه لم يقع فيها حجب ولا عول، فإنه يجب على أصحاب القرار أن يعطوا العناية للنفقات حسب أهمية موضوعها الأهم فالأهم والأعجل فالأعجل.
فالذي يراه محسوبكم في هذا الصدد- على أن بضاعته في علم التسيير مزجاة- أنه يجب في ميدان الصرف تقديم الباقيات الصالحات.
ونعني بالباقيات الصالحات المنشآت والبنى التحتية من طرق ومدارس ومستشفيات، فإنها أمور صالحة نافعة للجميع بأسره وباقية للأجيال القادمة فلذلك استحقت- حسب نظرنا- لقب الباقيات الصالحات.
ومن الباقيات الصالحات مباني السيادة كنزل السلطات الممثلة للدولة فيجب أن لا يضن على تلميعها وصيانتها بدرهم لأن بقاء الدولة وهيبتها مرهونان بها، فالحاكم الذي يسكن الكوخ يمكن أن يكون عبقريا في فن الإدارة لا يشق له فيه غبار إلا أن المواطن العادي الذي يحكم على السلطة من خلال جسمها وعلمها معا لن يمثل له أمرا ولن يعتبر له قدرا.
ومن الباقيات الصالحات أيضا الاستثمار في العنصر البشري وقد ضرب الله تعالى لنا مثلا بلاد اليابان فما هي إلا جزر مبعثرة في مطلع الشمس تهددها البراكين في كل لحظة وحين ولا تملك من الموارد الطبيعية إلا ما ينبت من الزغب في اللسان فعولت على الاستثمار في العنصر البشري فتبوأت في فترة قصيرة خير مكان في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا واجتماعيا.
ومن الباقيات الصالحات كذلك الاستثمار في الميدان الثقافي، ولعل بعضهم ينكر هذه ويقول: أنّى يكون ذلك وحال الجريض دون حال القريض. نقول له ببساطة: لن يداوي الجريض من غصته إلا القريض، ونعني بالقريض هنا مكونات الشخصية ومقومات الهوية، فإذا توطدت هذه المكونات وتعززت تلك المقومات أفرزت مصلا طبيعيا يحصن الفرد والمجتمع ضد مخاطر الانزلاق والاغترار بالقشور.
أما إذا اعتبرنا العمل الثقافي ترفا وشرطا كماليا لا يعنى به إلا الريان الشبعان الخلي من الهم، فأرانا قد ابتعدنا عن الإصلاح سبعين خريفا لأنا أنكرنا وجود الأرضية الصلبة التي يجب أن يقوم عليها الإصلاح وهي الضامنة لوجوده واستمراره، وحينئذ لا تدهش لما ستشاهده من التذبذب والاضطراب لأن ما أسس على القار قار وما أسس على الهار ينهار.
والظن بنا أنا قد استوعبنا هذه الحقيقة وسعينا لها سعيها والله الموفق وحده لا رب غيره.
الموضوع السابق