غمرني الزهو وانتابتني نوبة حماسة وخيلاء، وأنا أقرا جملة وردت في محاضرة لأحد المغتربين الموريتانيين، ألقيت في مؤتمر خاص يخلد مساهمتنا في الثقافة العربية والإسلامية .
يقول المحاضر مولاي إسماعيل ولد الشريف : “ومن غرائب وفرائد هذا القطر التي يجب أن يفخر بها ويعتز أبناء شنقيط في كل مكــان ولا أظنها وجدت لغيره ، هي أنه اشترك في اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي الأول بجدة خمسة من أعيان شنقيط كل واحد منهم يرأس وفدا أو عضو فيه يمثلون خمس دول هي : ( موريتانيا، المغرب، المملكة العربية السعودية ، الأردن ، اليمن ) كما حدثني بذلك الشيخ أحمد ولد أحمد بابا- حفظه الله – بمكة المكرمة عام 1419هـ ، وهو يعرف أسماءهم، وقبائلهم ، فليراجع في ذلك” .
اعتقد أن الكثير من المداد تمت إراقته في الحديث عن تاريخ الشناقطة المشرق، سواء تعلق الأمر بدورهم في نشر الثقافة الإسلامية، في مناطق لم تطأها قبلهم قدم فاتح، أو دورهم في إحياء وبعث الصورة الرائعة للشعر العربي، والمحافظة على لغته الساحرة، التي كادت صروف النسيان ابتلاعها .
لكننا في هذه السلسلة سنحاول أن نوقد شمعة في ظلام، اعتدنا استغلال دياجيره لوضع اللوم على الآخرين، عندما يتعلق الأمر بتجاهلنا ثقافيا، أو ننساق وراء اطروحات الانتلجانسيا العربية التي ترى أن ثقافتنا قائمة على مركز ومحيط، أو (مركز وهامش)، وهما يمارسان قانون الغاب في العلاقة بينهما.
خلال تواجدي في مؤتمر النقد الأدبي الذي أقيم في القاهرة خلال الفترة من 15 إلى 17 يونيو 2010، تحت عنوان : (النقد الأدبي والواقع الثقافي) أتيحت لي فرصة إلقاء كلمة لوم وعتاب، كانت موجهة إلى الأشقاء المصريين، حيث قلت لهم إنني لا أفهم السر وراء إسقاط اسم ولد التلاميد التركزي من رواد النهضة العربية، في الوقت الذي يعتبر محمد عبده رائدها، وكلنا ندرك العلاقة بين الرجلين فلم يكن باستطاعة محمد عبده إجازة كتاب من كتب التراث العربي دون إجازة ولد التلاميد له من قبل، ثم إن أهم وأعظم كنوز التراث المكتوب، تظل قابلة للتشكيك في المصداقية إلا أن تكون منسوخة من أصولها الموجودة في مكتبة ولد التلاميد.
و إذا كانت النهضة العربية قائمة على إعادة بلورة التراث العربي وبعثه من الرماد، فان مرجع رواد النهضة في ذلك هو محمد محمود ولد التلاميد التركزي الشنقيطي.
فهو الذي جال العالم ووصل إلى اكبر مكتبات أوروبا وقام بتدوين ما تحويه من تراث الأجداد (اللائحة موجودة)، وعندما شعر بانتهاء مأموريته الدنيوية عام 1904 قام بإهداء مكتبته كلها إلى دار الكتب المصرية، وهي عبارة عن 345 مخطوطا ، ويرمز لها في فهارس الدار بالحرف (ش) .
فلماذا لا يذكر هذا الرجل في سياقه إلا لماما، في الوقت الذي يجتهد الكثيرون في ذكر أشخاص لم يكن لهم من بصمة تذكر إلا انتماؤهم الجغرافي والقومي؟ .
وعندما أنهيت المداخلة خاطبني الدكتور احمد درويش -وهو احد أهم القامات النقدية العربية اليوم- قائلا:
لماذا لا تنظمون أنتم في موريتانيا مؤتمرا عن أعلامكم هؤلاء، ونحن مستعدون للحضور والمشاركة ؟ .
لكن الناقد السعودي النعيمي تولى الإجابة قائلا : إن دور هؤلاء في الثقافة المصرية اكبر واهم من أدوارهم في بلدانهم الأصلية ولذلك فيجب تكريمهم هنا أولا، هذا ما يقصده زميلنا الموريتاني .
والحق أن كلا الرجلين محق في تصوره، ذلك أن مقترح درويش جاء في محله، فلماذا تكتفي موريتانيا – مثلا بترديد الأنشودة الطروادية القديمة، في الوقت الذي لا يعرف المغنون شيئا عن طروادة؟
كما أن النعيمي كشف عن أزمة في الثقافة العربية بحاجة إلى تفسير .
إن هناك انجازا علميا رائدا قام به ولد التلاميد وأضرابه من الشناقطة المهاجرين لم يطلع عليه إلا القليلون ممن مسهم جنون البحث والسفر، فمن يعرف الآن من طلاب جامعتنا أن لطرفة بن العيد أخت تدعى (الخرنق) وأنها شاعرة وان ولد التلاميد هو من جمع ديوانها ليتم تحقيقه عن دار الكتب العلمية على يد الدكتور يسري الجندي؟
ومن يدري أن صاحب الوسيط هو أول من جمع ديوان الشماخ بن ضرار، ونشره مع شرح له سنة 1327 هـ بالقاهر، وانه من القلائل الذين أهداهم المويلحي كتابه (حديث عيسى ابن هشام) اعترافا بألقه النقدي الساطع .
وأن الشيخ عبد العزيز الميمني ( شيخ العربية في الهند) رحمه الله اعتمد في تحقيقه لديوان حميد بن ثور على نسخة ميميته التي في الوسيط، وقد نبه إلى ذلك .
ومن يدري أن محمد محمود بن البيضاوي الشنقيطي مثل احد أهم دعامات النقد الكلاسيكي في المملكة المغربية في ثلاثينيات القرن المنصرم، وان مقالاته النقدية نشرت يومها في مجلات (السعادة) و (المغرب) وغيرهما ؟ .
اعتقد أنها نماذج حية لريادات مظلومة من طرفنا، قبل أن نلوم الآخرين على طمسها، ومحوها من أرشيف الزمن والتاريخ .
ولنا وقفة مع هذه النماذج الأخيرة وغيرها، من صنوف التفوق الشنقيطي، حيث سنعمل على الكشف عن أسماء لها ريادتها، التي قد لا يكون الكثيرون قد اطلعوا عليها .
فحتى الحلقة القادمة .
الموضوع السابق
الموضوع الموالي