لاتستخف بشأنك.. فقد لا يكون سيئا إلى الحد الذي تعتقده.. من الناس من هو مسكون بدونية جهنمية تعبث بكيانه فتجعله يهرب من ذاته هروبه من الأسد الكاسر والخطب الرهيب والجائحة المزعزع المشمرة.. وتتفنن هذه الدونية بضحيتها فترديها في كل منحدر حتى تتركها شلوا ممزقا ملقى على هامش الحياة لا يعنيه شيء من أشياء الدنيا اللهم إلا إذا قلد هذا الطرف أو ذلك، أو اتصل بهذا الطرف أو ذلك بسبب تشع به روحه ويخلد إليه فؤاده لبعض الوقت، ثم تعيده دونيته إلى انطوائه وعزلته حيث مستقره ومقامه الدائمين، وأصل الدونية كما يزعم علماء النفس عقدة تحدث نتيجة لتجربة تربوية تقع مع المرء في صباه فتوصله إلى الاعتقاد بأنه دون الناس في كل شيء، وهو أقل منهم شأنا، ثم تتكرر التجارب معه على نفس الوتيرة وبنفس البعد حتى إذا ما كبر كبرت معه العقدة ثم تلازمه كما يلازمه ظله، فتولد لديه الرغبة الجامحة في الهروب من الناس، والاستقالة التامة من الحياة بصورة كلية. هذه العلة تصيب الفرد في حياته، فهل هي تصيب الشعوب أيضا.. الدونية إذا ما استفحلت تخرج الفرد من حركة الحياة فلا يرى له فيها أثرا فهل هي تفعل مع الشعوب؟ لقد رأينا شعوبا بأكملها خرجت من التأثير في الحياة بصورة كاملة حتى لم يعد لها من شيء تعمله إلا أن ترتفع في زاد الآخرين تأكل من سفاسفه، وتنهل من غدرانه عب الهيم. إن الذين يكتفون من الحياة باستهلاك ما ينتجه الآخرون يرضون بالدونية قدرا لهم هم كالمسخ ليس لهم وجود فعلي في الحياة.. وهم أشبه بالحيوانات الغريبة منهم بالبشر الاعتياديين إذ ليست لهم وظائف يمارسونها في عالم البشر طالما أنهم لايغنون الحياة من ثمرات عقولهم وإنما هم غالة على الناس يصيبون من أزوادهم فعل القاصر المحصور والمعتوه والبلد والقاصر. قرأت في زمن ماض كلاما لأحد السياسيين، أذكر أنه قال فيه المغلوب على أمره، يندفع في سبيل تقليد الغالب اعتقادا منه أن ذلك هو الأسلوب الأمثل، وهذا اعتقاد خاطيء وهو منطق المدحور المتخلي عن المواجهة المنسحب من المناضلة إلى الاستسلام التام، وهو غريب، غريب أن تضمحل ردة الفعل لدى المغلوب إلى درجة تقليد الغالب فيما يفعله. ولكن الأغرب من ذلك أ، تدفعه الهزيمة إلى التخلي عن التفكير.. والتخلي عن أشيائه الثقافية جملة وتفصيلا بحيث لايبقى هل من كل ذلك ما يشكل علامة مميزة لرصيده الثقافي ليعرف بها أو تكون عليه إشارة ذات دلالة.
هذا الضرب من الشعوب يعاني من دونية طوعته حتى سلبت منه خواصه الفطرية، وبذلك يكون قد فقد الأهلية لصنع الحياة واستكان إلى التبعية الأبدية وهذا لعمر أبيك لهو الخسران المبين. هناك ضرب آخر من الشعوب يعاني من دونية تكاد تشل حركته وتجفف ينابيع العطاء فيه، ولكنه لايزال يملك رصيدا من إرثه الثقافي يمكنه اتخاذه سلما للعروج معه والخروج من غل الشعور بالدونية. ونحن من هذا النوع ويجب علينا العود إلى الأصول والتمسك بها والاحتراس والتحصن بالعقيدة الصحيحة من ضرر بأساء التقليد الأعمى والاستهلاك المنهم لأشياء هؤلاء المستكبرين في الأرض الذين اجتاحوا بلاد الأمم والشعوب فنهبوها ثم فرضوا عليها ثقافتهم وفكرهم ثم تبعوا كل ذلك بحبال من النفوذ الدائم والهيمنة الإعلامية التي تحنق الأنفاس التي لم تكد لتدع لأحد فرصة للخروج من نطاقها الواسع. نحن شعب لديه رسالة قوية وشاملة من شأنها أن تحصن الفرد وتحميه من التفسخ والانخلاع من الإسلام.. ولكن الذي هو حقيقة قائمة بذاتها، هي أن الاطلاع على العقيدة ليس كبيرا جدا.. ولذلك فالوضع ليس على ما يرام.. فالانحراف والجمود والتخاذل.. كل ذلك عوامل يمكن أن تطفو على السطح بين الفينة والأخرى.. وتجنبنا لحدوث ما لا تحمد عقباه فإن مهمة الدولة في هذا المجال هي:
– العمل على ترسيخ وتقوية الإيمان بالدين الإسلامي من خلال حركية تنويرية مركزة يقوم بها العلماء بجد وإخلاص.
– اعتماد التفكير المنهجي سبيلا إلى تطوير الحياة وتنويع صناعة الأفعال في كل المجالات، المواطن الموريتاني يجب عليه أن يتمرس بالعمل لينتج جانبا من حاجاته الاستهلاكية.. لايمكن أن يظل يرفع بصره إلى الأفق البعيد في انتظار ما يرسله الآخرون من منتجاتهم.
إن الاعتماد الدائم على ما ينتجه الناس فيه خطر كبير يتربص بالإنسان في ذات نفسه إذ يجعله يتكل في إشباع حاجاته على غيره.. وهذا شيء مخرج له من ساحة العمل الخلاف، ولأن ينفق الموريتاني مائة عام، وهو منهمك في العمل من أجل سد تصيد السمك خير لك من أن تهدى إليك سمكة كل يوم.
وهؤلاء – أصحابنا المستكبرين – في إمكاننا أن نتعلم منهم صناعة الكثير من المواد التي نعتمد عليها في حياتنا.. وهذا هو الطريق الصحيح.. وسنة الحياة وسر تكاملها وتنوعها، نحن شعب أبي يحب الحرية.. وما من سبيل إلى أن يعيش حرا في هذه الدنيا إلا إّذا كنت تنتج حاجتك، وإني أعلم مثلكم أن هذا الطريق صعب وشائك.. ولكن هل ثمة من طريق سواه؟ إنه الطريق الوحيد إلى الحرية لا ثاني له.. وهي إما الحرية والاستقلال.. وإنا العبودية والتبعية.. حري بالمرء أن يعيش كريما أو لا يعيش أصلا.حاجته خير له ولبلاده من أن يظل في انتظار ما يرسل إليه ليشتريه لسد حاجته ويحسن المثل الذي يقول: لأن تتعلم كيف
نعم.. الطريق طويل ولكن.. إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة… لا تصغر في عين نفسك ولا تجعل منها مسخا…
الموضوع الموالي