النفوس مجبولة لمن أحسن إليها وأعطاها جرعة من الأمل تفتح أمامها نافذة من الضوء، يتلمس ويترسم على هديها الناس طريقهم إلى مخارج نجاة سفينة جنحت بها أمواج العبث المتربص كالأعاصير، وتقاذفتها ردحا من الزمن، شاب خلالها الولدان وأقفرت بسببها الأرض، وأصبحت تنمية وتطور البلد غورا وهشيما تذروه الرياح، وثروته دولة بين ثلة من ما ترك آل بني الأصفر، يورثه سلفهم لخلفهم، ولا يقبلون المساومة في التنازل عن حقوق يعتبرونها أصيلة، حتى ولو كانت على حساب مصير أمة، وحقوق شعب بلغ سن الرشد، وأصبح يستبين الهدى من الضلال والرشد من الغي.
وعلى درب هذه الثلة، التي ترفع عقيرتها وتشمر عن سواعد الجد، كلما لاحت في الأفق علامات مبشرات بين يدي أمل جديد، في نهاية عهد مرير يحكي قصة طويلة من المعاناة والارتهان لقدر التخلف وشقاء حرمان غياب التنمية، يجاهر البعض ممن يقدم نفسه كبديل ديمقراطي في التداول على الحكم، بمناوأة كل سبيل أو معلم، في طريق يفضي إلى خلاص البلد من وعثاء التيه طويلا في رمضاء الفقر والحرمان، ولا يجد غضاضة في البوح تصريحا لا رمزا ودون كناية في الوقوف بوجه بوادر تنسم الوطن لإرهاصات تنميته المنشودة.
يتوكأ ويتكئ أولئك على حجج ومبررات متهافتة ومسوغات بمنطق عبس وذبيان وثارات بكر وتغلب، رحلوها إلى عصرنا الحاضر، وألبسوها ثوب الحداثة ورداء ديمقراطية لم تكن أبدا في قرارة أنفس أصحابنا إلا مطية ووسيلة لتحقيق هدف واحد ووحيد- لا صوت يعلو على صوته، تهون في سبيله المبادئ، وتتضاءل أمامه الأهداف المعلنة للحزبيين وجمهور المناصرين من الدهماء والعامة المغفلين- يبتغي الوصول إلى السلطة، عفوا المشيخة، وممارسة هواية قديمة للأسلاف الميامين في الثأر من هذيل وردع هوازن عن الانتجاع في حمى مضارب الخيام.
أسمحوا لي ولو لبضع أسطر أن أتنكب طريق أسلوب التعمية والتمويه والاختباء بين الأحراش، لأصعد قمة الجبل وأمارس حقي في التصويب المباشر والحر، أصالة عن نفسي ونيابة عن أولئك الذين مثل لهم حصول موريتانيا -خلال الطاولة المستديرة في أبروكسل على ما تسد به خلة تنميتها، وأكثر من تمويلات جاهد وأرجف الكثيرون من الديمقراطيين لدينا في سبيل أن تضل طريقها أو تبقى حبيسة خزائن الممولين- نافذة أطلت منها الدولة الموريتانية الحديثة على أمل وحلم جديد يختلف عن كل الكوابيس السابقة، التي جربتها.
فمصير من ذلك القبيل هو ما كان سيثلج صدور النابهين من بعض سياسيي هذا البلد، ويشعرهم بلذة ونشوة الانتصار على غرمائهم من عامة الشعب وخاصته، ويعطيهم الأمل في قرب الوصول إلى جائزتهم الكبرى، عندما يطبق العوز والفاقة على البلاد والعباد، وتضيع معهما إلى غير رجعة أول محاولة جادة لتنمية وتطوير البلد على أسس سليمة، يعتقد هؤلاء أنها المسؤولة عن إدارة الشعب ظهره لهم، وتحرره من خرافة وكذبة كبيرة ألقوها في روعه، تصور مصيره بكفي عفريب إذا لم يتمسك بهم ولا يقبل المساومة في تصدرهم لشأنه كما كانوا يفعلون.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن تأليب الأحزاب واعتراض قوافل المؤن وقطع الطريق على كل مسعى ومحاولة لا تستنسخ تجاربنا المريرة السابقة في هذا المجال، إذا لم تكن موجبا للرفض الشعبي وتفرق الأنصار والأشياع، من حول الذين يتخذون من هذا المسلك أسلوبا ومنهجا في تعاطي السياسة والبحث عن أدوار في الحياة العامة للشعب الموريتاني، ففي أحسن أحواله وأخف أضراره أن ذلك يخالف ويناقض ما يرفعون من شعارات باسم الديمقراطية وحقوق الشعب والمجتمع، في اختيار ممثليه الحريصين على مصالحه المدافعين عنها.
فمن المتعارف المتواضع عليه في أعراف وأدبيات الممارسة الديمقراطية الحديثة، أن مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، وأنها مقدمة على ما سواها من التجاذبات السياسية والاختلافات في وجهات النظر بين من يتصدون للشأن العام، من الساسة وقادة الرأي، فخلافهم من المفروض أن ينحصر في الفروض بتعبير الأصوليين، التي هي تفاصيل، ولا يرقى أو يتم تصعيده ليطال الأصول، التي تعبر عنها المصالح العليا للأمة والشعب.
هذه المصالح- وان كانت تختلف درجة أهميتها تبعا لسياقات الظرف الزمكاني- إلا أنها تبقى بحكم ما تجلبه وتحققه من منفعة أو تدفعه من شرور أو ضرر عن الشعب والوطن، في حكم المنزه والمبعد عن تجاذبات واختلافات المتصارعين وتوسلات بعضهم للتدخلات الأجنبية، لأنها ببساطة مصلحة عامة يجب أن تكون في عداد المقدسات، التي يعتبر الإساءة لها في أعراف وقوانين بعض الأمم، هرطقة وخيانة عظمى تستوجب الوقوع تحت طائلة العقاب، خاصة إذا دخلت في الجناح الخاص بالاقتصاد، لأن “فقطع الأرزاق أشد من قطع الأرزاق”.
أما البعض من أساطين السياسة وحكماء البلد، ممن يمارس هذا الدور- عن وعي أو بدونه- فينتظر تعليق الأوسمة والتلويح له بإشارات النصر لقاء جهوده المشهودة في اعتراض سبيل التمويلات التي طلبتها الحكومة الموريتانية من المانحين، لمساعدتها في مسعى أخفق فيه كل الذين حكموا هذا البلد خلال خمسين سنة مضت على استقلاله، ويريد منا المتباكون على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء أن نساندهم ونشد على أيديهم، لكي يحرمونا من نافذة ضوء انتظرتها أجيال حرمت حتى من الحلم بها.
فبغض النظر عن تموقعات الخريطة السياسية الحالية للبلد وتوزعها بين معارضة وموالاة،فليس في شرعة ولا منهاج الديمقراطية التي ارتضوها لتسيير خلافاتهم، ما يبرر ويسوغ الإصرار على حرمان الشعب الموريتاني، من الحصول على أموال، إذا ما تم إخضاع تسييرها وتدبير صرفها لمعايير النزاهة والشفافية، التي كان اختلالها دائما وراء الفشل الذريع لمشاريع التنمية في العهود السابقة.
وما يعتقده البعض من أن ضرب ستار حديدي على الشعوب والمجتمعات، يمنع عليها مجرد التفكير في الخلاص من واقع التخلف وغياب أساسيات التنمية، ويبقيها طوع بنان ورهن إشارة بقايا من بقايا نخب تتحمل النصيب الأكبر والحظ الأوفر فيما آلت إليه أوضاع البلد، وتردت فيه أحواله، محض هذيان محتضر تخطته الأحداث وأصبح يصيح في مفازة من الأرض موحشة يتردد صدى صوته بين الفجاج، فيرتد إليه نعيق غراب نذير شؤم بين نهايته المدوية جزاء عادلا على سعيه لقطع أرزاق البلاد والعباد.
الموضوع السابق
الموضوع الموالي