عجيب هو عصرنا هذا الذي نعيش فيه.. إنه عصر أخذت فيه الأشياء كل لون.. أخذت الألوان الرئيسية والألوان الفرعية حتى اختلطت الألوان ببعضها وركبت الصور بعضها بعضا، فعممت الإشارات وسقطت الدلائل، وغاصت في أعماق الوحل الأسس التي كانت تقف عليها حياة البشرية من دين ومن خلق ومن مثل ومن قيم فصوح العالم البشري من ذلك كله، فلم يعد ثمة ثابت ولا أساس ولا قاعدة.. سقط كل شيء. فكل شيء بات مباحا. والعلاقات بين الدول صارت علاقة أمر ونهي.. من يملك القوة أكثر يأمر.. ومن هو دونه يمتثل للأمر أو يدق عنقه. هذه هي العلاقة.. القوي يفعل ما يريد لأنه قوي.. والضعيف يذعن لأنه ضعيف أو ليست هذه قاعدة رائعة؟ أو ليس هذا هو الخلق الكريم؟ إن الحيوانات المفترسة في الغابة يفعلون شيئا كهذا.. ولكنهم يمارسون خصلة حميدة هي أنهم إذ يفعلون ذلك يكفون عن الحديث عن الإنسانية والحديث عن الخلق الكريم.. حبذا لو فعل أولئك ذلك فتركوا الحديث عن الإنسانية والخلق الكريم!؟ لقد شرع هؤلاء لأنفسهم فأعطوا أنفسهم كل شيء ولم يبقوا لأحد شيئا.. ومع ذلك- وقد أحسنوا صنعا- قد نصبوا أنفسهم حكما لفصل القضاء بين البشرية فهي تحت سلطان أحكامهم حيث كانت من أرض الله الواسعة!
إن العالم المعاصر في حالة معاناة قاسية بالغة القسوة هو في حالة تقدم دائم.. وهو كل ما زاد تقدما ازدادت بلواه وتعددت مشاكله. في القرن الماضي تطور الأداء السياسي تطورا غير مسبوق فطفح الكيل بالنصوص السياسية المشبعة بروح الحرية والنزوع إلى الاستقلال.. وطلع في أفق ذلك بيان منظومة الأمم متضمنا جملة من المبادئ ذات الأهمية البالغة فأشرقت أفئدة المتطلعين إلى الحرية إلى بزوغ نجم عهد جديد يطوي ملف الاستعمار البغيض.. فانداح الناس يلهثون خلف ذلك الصيب لهاث الملهوفين وسكنوا إليه سكون الخائفين.. وهكذا وقعت الدول الوثائق التي أعدها القائمون على أمر الأنشطة السياسية، ونجح هؤلاء في الحصول على الاعتراف لهم بما أرادوا لأنفسهم من سيادة وتميز من ذلك حقهم في إنشاء الجمعيات وتفردهم بالسلاح النووي.. الخ.
فأخذوا يمارسون ما خولوه لأنفسهم، وقد اعترفت لهم الأمم بحقهم في ممارسة ذلك.. فعلت ذلك على حين غفلة من أمرها وفي خضم المشاعر الجياشة التي استثارتها تلك البيانات الرفيعة المستوى والأطروحات الدافقة بالمعاني العظيمة التي تمجد الإنسان وتحث على احترامه والعناية به، وتشيد بحقه في التمتع بالعيش الكريم على هذه الأرض. ناهيك عما أشارت إليه بوضوح من المعاني ذات الصلة المباشرة بحقوق الدول في إقامة علاقات تعاون قائمة على أساس متين من التكافؤ الأمر الذي زرع حقولا يانعة من الورود في كل اتجاه، فساد الناس بسبب من ذلك اعتقاد قوي بأن الوعي الحضاري قد سمى إلى أفقه الطبيعي، وأن البشرية قد ارتفعت إلى مستوى الفضيلة وأن سياسة البدائية المتوحشة، النزاعة إلى الطيش والغرور والغطرسة قد اندحرت وولت إلى غير رجعة، وأن عهد العدل والإخاء والمحبة والتعاون البناء قد أزف وأظل البشرية زمانه..
انتشرت هذه الأطياف الندية الحالمة فسكنت إليها النفوس وعاد إليها الاطمئنان وطفق الكثيرون يتكلمون عن حياة واعدة لا تتهددها الحروب، ولا تعبر أجواءها أشباح المخاوف، ولكن سرعان ما اتضح أن كل ذلك كان نارا متأججة تحت الرماد وسما ناقعا مزج بعسل.. سرعان ما انجلت الزوبعة لتظهر من تحتها الحقائق شاخصة وقاسية وعنيفة.
لقد أسفرت تلك النصوص الجميلة عن عدد من المعطيات التي تمكن للقوي بإحكام سيطرته وإنفاذ قراراته وتوظيف أدواته السياسية على النحو الذي يخدم مصالحه ويعزز نفوذه. نفوذه على من؟ على الضعفاء الذين عرف كيف يجعلهم يحلمون، فيمعنون في الأحلام حتى إذا ما ثملوا بأحلامهم دعاهم إلى التوقيع على النصوص التي تكرس له السلطان المطلق على الأرض فلبوا سراعا.. وكان له ما أراد.. فأين المفر؟ لا وزر ولا مفر لا مفر من الإذعان لمنطق القوة. هذه هي القاعدة السائدة من أول يوم ظهر فيه القوي شامخا بقوته، وانزوى فيه الضعيف ثاويا في عرصة ضعفه. وهذه القاعدة مطردة أحكامها مادامت المفاهيم السامية من دين وخلق كريم غائبة من حياة الإنسان الإنسان إنما يسمو بالدين.. الدين هو الذي يهذبه ويعلمه مكارم الأخلاق. والدين الذي يفعل ذلك بالإنسان هو الدين الإسلامي لأنه هو الدين {إن الدين عند الله الإسلام}.
الدين الإسلامي هو الذي يرفع من مستوى الإنسان حتى يسمو كل شيء فيه، يسمو تفكيره، وتسمو أخلاقه ويسمو أداءه وتخصب حياته ويكثر خيره ويقل شره فإذا تعلم أفشى العلم حتى يستفيد الناس من علمه وإذا كسب مالا أشرك الناس في ماله بالزكاة وصدقة التطوع وإكرام الضيف والعمل على إعمار الأرض. وإذا وهبه الله القوة سخر قوته للخير لا تغره القوة ولا تدفع به إلى الطغيان والطيش وإلحاق الأذى بالآخرين.
الإنسان المسلم الواعي العالم.. هو الذي يجد معاني الوعي الحضاري لأن الإيمان طهره من أدران البدائية ومن وحشيتها وشرورها وقسوتها وجشعها! ومن غير الممكن أن يظهر الوعي الحضاري في الأوساط التي لم تنهل وتعل على ظمإ وري من معين الإيمان.. الإيمان هو قيد الفتك.. وما يقيد الإنسان عن الفتك سوى الإيمان. فذاك الذي ظهر في أوساط القرن الماضي من المعاني الكبيرة التي حفلت بها الأديان كان سحابة صيف.. وقد اتضح ذلك لاحقا حتى صار كفلق الصبح.. ولعله الآن أشد وضوحا.
أما الحديث عن تطور الوعي الحضاري الذي طالما ألهب مشاعر الناس في الأمم الضعيفة فهو كلام يهدف إلى تبريد لوعة وخوف الخائفين وبحثهم على الارتخاء والاستكانة والهدوء في سواء الجحيم.
عصرنا عصر رائع ..عصر الأقوياء.. عصر انحطاط القيم والمثل.. ولكنه في الوقت ذاته عصر الانهيارات الكبرى والانحدار المخيف نحو الهاوية فليمسك كل منا أعصابه ويضع يده على صدره ثم يتماسك جهده.
الموضوع السابق