بين(ازويرات) و(لمغيطي) تأخذ مشتبهات الأرض شكلا آخر..
ستمائة كيلومتر وتزيد، من الفيافي والقفار.. منبسطات من المهامه العطشى والغرثى، تتمدد أمام العابر، ملء الأفق، وتنساب خلفه مسرعة، كأنما تريده أن يتوغل في أعماقها أكثر، فتحكم سيطرتها عليه، وتثبت جبروتها واستعصاءها على التطويع والانقياد..
ستمائة كيلومتر ينعدم الإحساس فيها بالمكان لشدة تشابهها.. أماعز من الأرض لم تسعف “عجائز ابن الشيخ سيديا” لكنها أسرت ابن الطلبة وأخذت بشغاف قلبه..
ستمائة كيلومتر لا يستطيع عابرها طرد التخلص من الإحساس بالرهبة، ولو كان محاطا “بجيش من الإعلاميين” وحتى لو كان بينهم “ذو سابقة في العسكرية”..
انبساط الأرض واستواؤها، وأمواج السراب المتلاطمة تزيد وحشة المكان.. يريك السراب الحصى كدى، وتتراءى لك من بعيد أجسام تحسب فيها حياة، فإذا اقتربت تلاشى ذلك الظن وأيقنت أنك في “مهامه تيرس” ووجدت سرابا بقيعة.
درجة الحرارة العالية خارج السيارة ذكرتني بإشهار لإحدى شركات الطيران يتردد باستمرار على إحدى القنوات العربية وتأكدت أن “درجة واحدة” قد تصنع الفرق!..
في هذه المهامه لا يوجد أثر للحياة، حتى الذباب والنمل لا وجود لهما، أما “ضب تيرس” فيبدو أنه أصبح من الماضي ..
التوقف وأخذ قسط من الراحة أمر مستحيل.. الأرض جرداء، لا شجر يظلك و لا “مراسي” تمكنك من بناء سقف يظلك حتى ولو كان من القماش.
لكن هذه المهامه تعاطفت مع المنهكين منا، فتحالفت سخونة الأرض والصخور المسننة، وبدآ يمزقان عجلات بعض سيارات الوفد لنأخذ “قسطا من الراحة إجباريا” ونواجه أشعة الشمس العمودية دون خجل ولا وجل.
لحظات التوقف الإجبارية تلك استغلت على نطاق واسع لإعداد كاسات الشاي من طرف البعض، فيما لم ينتظرها آخرون للقيام بهذه “الخدمة العمومية” فأقاموا شايهم وصبوا كاساتهم والسيارات لما تتوقف، ضاربين عرض الحائط بكل أدبيات الشاي باستثناء “الاحتراس من السكاك”..
لحظات الشاي، لم ينافسها في الأهمية سوى لحظة “التوزيع المجاني” التي يقوم بها المساعد أول خليفة، فتنبسط أسارير الوجوه، و”يقبل الناس على شؤونهم” وتنشغل “بعض الألسنة” عن “التنظير” وحديث البطولات..
في كل توقف إجباري، كان السؤال يتردد على الشفاه: ماذا بقى من المسافة، ويأتي الجواب على شكل رسالة طمأنينة من الضباط المرافقين، تمسح غبار الرحلة وتنعش الأمل في النفوس..
أريحية الضباط وثقافتهم العالية، أوجدت ألفة وانسجاما بينهم وبين الإعلاميين، وغيرت تلك الصورة النمطية المشوهة لرجال الجيش وكل ما له صلة بــ”العسكر”..
“مهامه الجغرافيا” في طريق(لمغيطي) مثيرة حقا، لكن “مطبات التاريخ” حاضرة بقوة في هذه المنطقة، فـ”تاريخ الشمال” حافل بالأحداث، وتيرس جزء من ذلك..
هناك على أديم تلك الأرض، جرت أحداث مدوية، ودارت وقائع مشهورة وعرفت مناطقها أياما مشهودة..
تعطرت مناطق كثيرة فيها بدماء الشهداء.. وتزينت بمقابر الأبطال.. واحتفظت في ذاكرتها بملاحم بطولية.. وخلد ت أسماء أبطال تدين لهم هذه البلاد بالكثير من الأفضال وينحني التاريخ عندما تنطق أو تكتب أسماؤهم..
سجل لها التاريخ أنها كانت آخر مناطق البلاد خضوعا للمستعمر.. وشهدت واحدة من أهم وآخر معارك المقاومة الوطنية بقيادة الشهيد الأمير سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيدة..
وشاء لها الله أن تكون –بحكم الجغرافيا- مسرحا لجانب كبير من معارك حرب الصحراء الدامية..
من (آمقطير) إلى (وديان الخروب) ومن (لمغيطي) إلى (تورين) سال دم الشهداء فعطر شذاه الأرض ولون أديمها، وسطر أسماء أبطال عاشوا أماجد لم يقبلوا الضيم ولم يستكينوا ولم يخنعوا..
في عين بنتيلي، كما في افديرك والبير، دارت معارك طاحنة في حرب مأساوية، سقط فيها آلاف الشهداء من الجنود والمدنيين، ما تزال تيرس ومناطق الشمال تتحدث عنهم وعن مواقعهم، وتروي قصصهم وأيامهم، وهي قصص وأيام، ربما نحن بحاجة إلى أن توثق وتدرس، حتى لا تتحول إلى مجرد “طبعة جديدة” من “حكايات الجدات”..
وحينها لن يتجرأ متطفل مثلي على الحديث عن “مهامه الجغرافيا ومطبات التاريخ”.
/////////////////////////////////////////////
في لمغيطي تغير الكثير
(لمغيطي) اسم “صاعق” استمد رمزيته ومكانته في الذهنية الشعبية إثر الهجوم الذي تعرضت له حاميته العسكرية في يونيو سنة 2005 .
يقع في منطقة الحنك على مسافة 600كلم شرق ازويرات و 350 كلم جنوب الجزائر 150 كلم من الحدود المالية.
وفي رحلته المتعرجة إلى الشهرة، شكل بئر لمغيطي نقطة عبور إجبارية للبدو والمتجولين في تيرس، نظرا لندرة المياه في منطقة الحنك الوعرة.
كان البدو يغطون فتحته في الفترات التي يهجرونها، ومن ذلك استمد اسمه.
دخل التاريخ بشكل مدو وسطر اسمه بدماء شهداء من الجيش الموريتاني بتاريخ 4/6/2005.
ما بين يونيو 2005 ويونيو 2010 تغير الكثير في لمغيطي ولم يعد ذلك البئر المطمور المحاط بتحصينات عسكرية بسيطة وحامية محدودة الأفراد، تقوم على مساعدة العابرين والبدو الرحل، وتأمين الممرات للقادمين من وإلى شمال موريتانيا.
ومنذ تعرض لمغيطي للهجوم بذلت جهودهود مكثفة لتغيير واقع الحياة فيه، لم تقتصر على الحامية وإنما شملت المحيط الذي يقع فيه لمغيطي.
فعلى مستوى مياه الشرب، التي تعتبر المادة الأهم في فيافي تيرس، ما يزال البئر التي تسمى بها هذا المكان قائمة حتى الآن، لكن استخدامها بات محدودا واقتصر على سقي المواشي، فقط بعد أن تم حفر بئر ارتوازية مجهزة بمضخة تعمل بالوقود، يستخدمها أفراد الحامية العسكرية في لمغيطي والوحدات العسكرية المتنقلة المكلفة بمواجهة الإرهاب.
ولم يقتصر الأمر على هذا الجانب فحسب وإنما أعيد ترتيب الأوراق الأمنية للحامية في ضوء استخلاص نتائج الهجوم والاستفادة من الأخطاء التي أضرت يومئذ بالجيش وأفقدته ضباطا وجنودا ما تزال دماؤهم طرية وما يزال صدى الوقعة التي استشهدوا فيها مدويا يخترق آذان الموريتانيين.
وعلى مستوى الوضعية المعيشية للحامية تتوفر الحامية على كل احتياجاتها وأرصدتها مما يخلق جوا من الطمأنينة لا تخطئها عين الزائر في تقاسيم وجوه الجنود في سرية لمغيطي.
ولعله يمكن القول إن الجيش الموريتاني قد استفاد إلى حد كبير من ذلك الهجوم الذي شكل نقطة تحول في تعاطي القوات المسلحة مع الخطر داخليا وخارجيا، و”رب ضارة نافعة”.
////////////////////////////////////////////
من وديان الخروب إلى لمغيطي
بين “وديان الخروب” و لمغيطي” ثلاث وسبعون سنة ومائة وثلاث كيلومترات…
في وديان الخروب، كما في لمغيطي، سالت دماء زكية تعطرت بها الأرض، ودفن شهداء أبرار رفعوا راية العزة خفاقة، فشرفت بهم منطقة الشمال وأزدان سجل التاريخ…
في وديان الخروب استشهد بطل أبى الضيم، ورفض الذل والاستكانة، وأبى لوطنه المهانة والاستعباد والاستباحة من غزاة لا يرعون إلاً ولا ذمة..
حمل سلاحه واختار رفاقه وحدد هدفه واتكل على الله..
واجه عدوه بصدر مفتوح، لم ترهبه ترسانة أسلحة أعدائه، ولم ينل من عزيمته تواضع ما بيده من سلاح بدائي..
لم يرضخ لتهديد ووعيد محتل لا رحمة في قلبه، ولم يثنه الإغراء بالجاه والمال.. واختار كرامة الحياة أو شرف الاستشهاد، فكان له ما أراد..
أحب هذه الأرض وتشبث بها، فأراد البقاء فيها حيا أو ميتا، ولم يشأ، وهو الذي ولد خارجها، أن يغادره حتى ولو ضمن بذلك حياته..
في لمغيطي جنود مرابطون على ثغر من ثغور هذه الأرض، لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، في حامية عسكرية هدفها تأمين مواطن وحماية وطن.
هجروا الأهل والأحبة ولبوا نداء الواجب، أبوا الخنوع والقعود فواجهوا الغدر تحت جنح الظلام .. فسقطوا في ساحة الشرف، فداء لوطنهم، ووفاء لشرفهم العسكري..
في وديان الخروب واجه البطل المجاهد المستعمر الفرنسي نهارا جهارا وحمل السلاح في وجهه فنال شرف الشهادة…
وفي لمغيطي استشهد سبعة عشر جنديا ذبحوا بدم بارد تحت جنح الظلام…
بحساب الزمن، يفصل بين لمغيطي ووديان الخروب زمن طويل، لكن شرف الشهادة وقيم البطولة، تخترق الزمن وتختزله فيتجاور لمغيطي ووديان الخروب في الزمان، تماما كما تجاورا في المكان..