الاقتصاد الوهمي قد تشيد به القصور وتبنى الفنادق والعمارات الشاهقة، وتقام به المشاريع العملاقة، وبينما صاحبه في بلهنية من العيش يفكر ويقرر في انجازات الأمس ومشاريع الغد إذا بهذه القصور خرابا كالقبور، وتلك العمارات كالعظام الرفات، وهذه المشاريع العملاقة كالفقاعة فَشَتْ وفَشَتْ ثم انْفَشَّت.
كان الناس في قرننا الماضي لا يصدقون بهذه الحقيقة، ويرونها وأمثالها من إرجافات المتدينين الذين يوعدون الناس بالجحيم والحميم والسموم والحِموم، ويضيقون عليهم الدنيا وقد خلقها الله واسعة، ويدخلون عليهم الحرج في كل صغيرة وكبيرة، ويوعدونهم في عمليات الربى (على وزن الزنى) بالسحق والمحق والحرق، قالوا: والله ما رأينا مما يذكرون شيئا ولقد ضَحَّيْنَا بهن عورا وعميا فما ضرنا ذلك شيئا…
كذلك كانوا يقولون وكانت كلما حدثت أزمة اقتصادية من مخلفات الربا عالجوها بمهدئات وقالوا: هذه إحدى عيوب النظام الرأسمالي ولكل نظام عيوب، وهي بمنزلة الموضع الواحد الجديب داخل الروض الواسع الخصيب.
هكذا كانوا يقولون وتتراكم الأزمات، ويزين لهم الشيطان سوء أعمالهم ويبتعدون عن الله تعالى وعن هدْيِه.
هكذا كانوا يقولون إلى أن جاءت الطامة الكبرى التي قوضت الاقتصاد الرأسمالي فانهارت بنوكه، وكسدت صكوكه وَرَغا فوق أصحابها سقبُ السماء، فداحِضٌ بِشِكَّتِه لَمْ يُسْتَلْبُ وَسَلِيبٌ، إنها الأزمة الاقتصادية النقدية التي حُدِّثْت عنها وأصابك وإيانا من غبارها وعارها في السنتين الماضيتين. وعندما ضربت تلك الأزمة بجرانها وشق بالعالم أمرها، اجتمع أهل الحل والعقد من أهل المال والنقد، وتماروا أين النجاء، فأما اقطاب الرأسمالية الراسخون فيها والذابون عنها فقالوا: أصبروا وصابروا إنها سحابة صيف عن قريب تنقشع، فقد وقع لآبائنا مثلها في ثلاثينيات القرن الماضي حتى كاد اقتصاد العالم ينهار فتلافاها الرئيس الأمريكي روزفلت بعهده الجديد وضرب عليها بيد من حديد وهذه كتلك: لقد مس آباءنا السراء والضراء…
وأما من دونهم ممن هو أقرب إلى الواقعية وربما وصف باليسارية وهو منها بريء، فقال: لابد من وضع قيود “لتنظيم” النظام الرأسمالي، فإنه لمن الضعف والذمامة أن ندع المضاربين بالاقتصادات الوهمية يتلاعبون بمصير العالم وبأمواله التي جعل الله له قيما… وقال آخرون أشياء أخرى… فما انعقد لهم إجماع على شيء، وإنما خلصوا إلى نتيجة كانت قائمة قبل اجتماعهم وهي أن كل دولة تعالج هذه الأزمة على حدة، بما اقتضاه نظرها حسب وسائلها وتوجهها، ما أحسن هذا الكلام ولكنه لا يحتاج إلى اجتماع.
وأحسن ما يسمعه السامع في معمعان هذا الخصام تلك الأصوات الخافتة التي تنادي بتجريب النظام الاقتصادي الإسلامي ولا تكاد تسمع جراء ضجيج الباطل الذي يحيط بها من كل جانب. وان لمما يرتاح له ويبشر بالخير أن تلك الأصوات بدأت تدخل آذان القائمين على الاقتصاد في بعض الدول الغربية، فتراهم يقومون ببعض التجارب في ذلك الميدان. وأحسن ما في تجاربهم هذه أنها تخلصنا – نحن أهل هذا الدين القويم – من عقدة النقص فتشجعنا على المضي قدما في عرض بضاعتنا وتقديم بدائلنا إلى هذا العالم الحائر الجائر الخائر. ذلك أن الخنوع الذي عشناه عقودا من الزمن قد طبع سلوكنا وحوَّر رؤيتنا، وفت في عزيمتنا وزعزع ثقتنا في أنفسنا حتى صرنا لا نرى الحق حقا إلا إذا نطقت به ألسنة سادتنا بالأمس ولو كان أظهر من الشمس، وصرنا نستشهد بأقوالهم لصحة قول الصادق المصدوق، كما نستشهد لصحة قول الخالق بقولة المخلوق.
فإذا انحل عنا هذا المُركب (مركب النقص) فقد قطعنا شوطا كبيرا في الاتجاه الصحيح، فعلى فقهائنا وعلماء الاقتصاد منا أن يصدعوا بالحق في المجامع العلمية والعالمية فقد برح الخفاء وظهر الصبح لذي عينين، لا يستقيم الاقتصاد العالمي إلا على المبادئ التي أرساها كتاب الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فلنصرخ بها بين أيديهم…
إن الاقتصاد الرسمي الناتج عن التداول بالربا هو في الحقيقة أرقام لا تقابلها قيم حقيقية. وقد جعل الله تعالى الأموال قيما – ففيه انحراف بالقيم النقدية عن هدفها الذي وضعت له من كونها وسيطا وخازنا للقيم ومقياسا لها. والاقتصاد الربوي يجعلها سلعا تباع وتشترى وتزيد قيمتها وتنقص فلم يعد من الممكن أن يضبط بها شيء، لأنها في نفسها غير منضبطة، كما لو فرضنا أن المتر يصبح يوما مترا ونصفا ويوما تسعين سنتمترا!! فقدر الضرر المترتب على ذلك والإرباك الذي يدخله على الاقتصاد.
وقد وضع الشرع المطهر للاقتصاد الوهمي اسما بليغا موحيا لا يوجد أبلغ منه للتعبير عن كنهه وخصائصه ألا وهو كلمة “الباطل” فتدبر ذلك، والله في عونك.
الموضوع الموالي