شاهدت في التلفزة وسمعت في الإذاعة وقرأت في الجريدة ما عاشته مؤخرا بلاد اليونان من إفلاس اقتصادي وتدهور اجتماعي وانفلات أمني جعل أخواتها من الأب دول الغرب الأوروبي تجمع لها الصدقات وتستنهض لها همم أهل المرؤات من أهل المبادرات الفردية أو المؤسسات النقدية فجعلت الدولة تقدم المليون والمليونين والأخرى الألف والألفين، فحصل من ذلك مبلغ لم يبلغ في عمق الأزمة مبلغ الكعبين، بل ابتلعته الأزمة ابتلاع النقط السوداء للأجرام السماية وقالت للقوم مقالة حوتة سليمان: سليمان أرزقني.
ثم أقرضوهم بعد ذلك قرضا أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه غير حسن لأنه مشروط بتقطيب الحواجب وتجميد الرواتب وزيادة الضرائب.
في شروط أخرى كان أكبر من تضرر منها طبقة الفقراء من أهل الرواتب الصغار ونجا من هولها أهل الشرائك والفرادون من أهل رؤوس الأموال الكبار وحجتهم في ذلك أن فرض الضرائب على أهل الشرائك مضر بقدرتها التنافسية وذلك مضر بالنمو الاقتصادي وذلك مضر بتوفر فرص التشغيل وذلك مضر بسياسة القضاء على البطالة، بهذه السلسة الحتمية قضوا أن خير من يحمل عبء الأزمة هم الفقراء الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة..
هكذا فكروا وقدروا حتى جاءهم من الفقراء ما لم يكونوا يحتبسون ذلك أن الفقراء لهم حول وقوة، فلقد أشعلوها عليهم غارة اضرابية شعواء أقضت مضاجع أهل القرار فمنعتهم القرار ونادوا ولات حين مناص، والأمور تجري الآن على هذا النحو تخبو تارة وتثور أخرى.
ولقد خاف عدواها بعض من كان يسعى في دوائها مثل البرتغال والاسبان وما فرنسا من ذلك ببعيد حسب ما صرخ به وصرح بعض ساستها الكبار.
أما أنا كاتب هذه الأسطر فقد استخرجت مما وقع لليونان عبرة لمن يعتبر، وهي أن الأمجاد الغابرة لا تغني شيئا في دفع المشاكل الحاضرة، وأن المجد العصامي خير من المجد العظامي وإلا فكيف تصبح دولة أنجبت عباقرة من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وجاءت بمثل الاسكندر المقدوني الأكبر الذي ملك العالم المعمور ولم يزد على الثلاثين إلا قليلا، كيف لأمة أنجبت هؤلاء العمالقة أن تصبح في حالة من الخمود والجمود والفقر والكفر يرثى لها القريب والبعيد.
كيف أصبحت تتكفف الدول الغربية وبنورها وعلمها وحضارتها أكلوا الخبز؟ كيف أصبحت تجري وراء الركب وهي كانت الفائزة التي تنير الطريق وتحرر العقل وتؤصل القيم؟ كيف تم ذلك؟ أهو انقلاب في سنن الكون أو انحراف في دورة الفلك؟ افتونا يا علماء التاريخ والاجتماع والتنجيم.
وبعد، فكل ما صنع الغربيون لليونان من الإحسان فهي له من طرفهم أهل لأنهم بما فعلوا ما كافأوا معشار ما أسدت إليهم الحضارة اليونانية من العلم والنور أيام إذ كانوا في جهلهم يعمهون، بيد أنهم أساءوا صنعا فيما اشترطوا عليها من شروط مجحفة لا يرضى بها قوي ولا ذليل فلقد كدرت شروطهم تلك ما منوا به، فلو أن اليونان اليوم كانوا على ما كانوا عليه في القديم من الشهامة والكبرياء والإباء لقالوا لهم: خذوها فلا حاجة لنا فلقد تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
ويعجبني في هذا الصدد خبرا سمعته الأسبوع الماضي مفاده أن زعيم بلد قريب من بلادنا لا يفصله عنها إلا نهر غير عريض، لم يرقه ما قرأه في الصحف من وصم بلاده بالرشوة والفساد على لسان ممثلة دبلوماسية في بلده لأكبر دولة في العالم خارجة بذلك من واجب التحفظ الذي تفرضه عليها وظيفتها الدبلوماسية، فما كان منه إلا أن كال لها الصاع صاعين، وقديما قالت حكماء العرب: من الناس من لا يرده إلا بعض أخلاقه، فاستدعاها فصارحها- بحضور العدستين الكبيرة والصغيرة- بالتي ما بعدها شيء وكان مما قال لها: إن بلدنا بلد صغير ولكنه حريص على كرامته وسمعته وأنا مسؤول عن كرامته وسمعته ولن أقبل الخدش منها لأي أحد كائنا من كان ولاسيما بدون بينة ولا دليل مقنع ثم ختم خطابه قائلا: …وإذا كنتم إنما تفعلون هذا إذلالا منكم ومنا علينا للعون النقدي الذي تقدمونه لنا فها هو ما زال بحاله محفوظا بخاتمه، فاذهبوا به الآن وحولوه إلى من يرضى أن يشتم بكرة وعشيا، أما نحن فلسنا منصاعين لذلك..
إن موقف هذا الزعيم صعب جدا ولابد له من جراءة كبيرة وقد تترتب عليه أزمة دبلوماسية ولكنه محمود العاقبة بلا شك إذ يعلم الشركاء على إثره أن البلد ليس نهزة لمن رامه وأن كرامته محوطة بخطوط لا ينبغي الاقتراب منها فضلا عن تجاوزها..
الموضوع السابق
الموضوع الموالي