سلطان العادة في ثقافة وتراث مجتمعنا أمره عجيب وشأنه عظيم، يدين له الكل، ويقدم بين يديه طوعا وعن طيب خاطر القربات، ويضحي في سبيل الامتثال عند أمره ونهيه بالثابت والمتحول، من كل مقدس أو قيمة في تراثنا، لا تدين بالولاء لعادات وتقاليد ليس من عادتها ولا في قاموسها الإنصاف ولو بشطر كلمة، في حق شموع وقناديل من طينة أخرى وأحجار كريمة، لم تتدنس أو يصيبها صدأ أو يلحق بها درن حياة، مثقلة ومترعة باشتراطات واقع، ما عاد يركن أو يحفل كثيرا بأشياء تسمى مبادئ ومثلا، أو يؤرقه وخز ضمير على نكرانه الجميل وإدارته الظهر وقلبه ظهر المجن للمبتلين من بيننا بخدمة الناس وحب الخير لذاته.
لكن العادة التي هي كالشرع والأعراف المتجذرة في منظومتنا القيمية ليس فيما توارثه خلفها عن سلفها قيمة قائمة بذاتها، تعلي من شأن الخدمة العمومية ومساعدة الناس وتسهيل أمورهم، في شتى منازع حياة العصر المعقدة المتشعبة، أو ترى فيها عملا نبيلا يكرم أصحابه ويلقون لأجله الاحترام والتبجيل، الذي يستحقونه على الدولة والمجتمع، لقاء أفعالهم الجليلة وخدماتهم النبيلة لصالح شعبهم وبلدهم.
فأعرافنا الجارية وعاداتنا المرعية مرهوبة الجانب موقوف عند حدودها ،عندما يتعلق الأمر بجلب منفعة ذاتية آنية أو دفع مضرة وشيكة الوقوع ، لكنها رخوة مطاطة متساهلة عندما يتعلق الأمر بمراعاة الأخلاق أو الوقوف عند حدودها.
من هنا نعتقد أنه سيكون من أولى الأوليات وأكثرها إلحاحا في سبيل إنصاف هؤلاء الخيرين، تمييزهم من بين المتسللين والمغشوشين غير الأصليين، ومن يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فعادتنا أن نميل ميلة واحدة نحو كل مظنة للتحصيل والربح القصير، وأقرب طريق وأيسرها للالتفاف وحرق المراحل، حتى ولو كنا نعلم علم اليقين أن الأمر لا يعدو كونه طيف خيال وسراب بقيعة.
ومن ضمن تلك الأولويات المشار إليها آنفا الانطلاق من حقيقة صارخة لا مراء فيها، تقوم على فضيلة الاعتراف بأن طفرة العمل الجمعوي خلال السنوات الأخيرة، خاصة في شقه المتعلق بالنشاط الخيري وحتى النقابي، شكل ميدان سباق محموم بين غرباء عليه لا يمتون إليه بصلة، اتخذوه مطية ووسيلة لجمع المال ونيل النفوذ، وفي بعض الأحيان خدمة لأجندات معينة دافعها تحقيق مآرب أخرى، ليست المال والنفوذ ولكنها كذلك ليست حب الخير لذاته.
ومهمة من هذا النوع على نبل وشرف مقصدها ، تبقى محفوفة بمخاطر الإخفاق والترجل منتصف الطريق وربما في بدايته، لتضافر عوامل غير مساعدة، تحمل في طياتها نذر فشلها، وما يعنيه ذلك من احتمال استعداء جهات، أصبحت ممارسة هذا النمط والنوع من العمل الخيري جزءا من حياتها، سوف لن يكون من السهل تنازلها عنه لمجرد عظات من هذا الطرف أو تلك الجهة.
كما أن جاذبية المسار والطريق التي ابتدعها أشخاص معينون- على الأقل من الناحية الأخلاقية- في خدمتهم للمجتمع ليست بالضرورة كذلك عند آخرين يمثلون السواد الأعظم من المشتغلين بالعمل الخيري بمهومه الواسع، قد لا يكون المعيار الأخلاقي يمثل كثيرا بالنسبة لهم.
أو ليس قمينا ومناسبا وجميلا أن نحتفل ونحتفي بمن خالفوا القاعدة من بيننا، ولم يجرفهم تيار واقعنا إلى القاع ، يقاومون ويغالبون أمواج إغراءاته العاتية، يقفون في وجهها ويرفضون الامتثال لأوامرها والاستسلام لغوايتها ، ويستحقون عن جدارة أن تضرب باسمهم النقود و تصدر للتنويه بهم الطوابع البريدية، وتقام لتخليد ذكراهم النصب التذكارية، في الساحات والمتنزهات العمومية.
ذلك أضعف الإيمان وأقرب إلى التكفير عن التقصير، وأحيانا التشكيك في خدمات هذا الصنف النادر من مواطنينا، وتلك مناسبة وفرصة لإعادة بعث وإحياء قيم الإيثار والفضيلة حتى تبقى جذوتها متقدة تنبض بالحياة بين ركام ورماد الحقب الضائعة المائعة من حياة مجتمعنا المعاصرة.
ولقد كان مما أقنعني بالبوح واستفزني لكتابة هذه الخاطرة عن واقع النسيان والحرمان الذي يقابل به المجتمع وأجهزة الدولة المختلفة جهود مواطنين بسطاء مخلصين، آثروا خدمة وطنهم وبني جلدتهم في صمت وهدوء، مثال شاخص وشاهد حي يحكي واحدة من قصص التفريط والتنكر لجهود هذا الصنف من المواطنين، يمثله أحد الموريتانيين المقيمين في أقليم الأندلس باسبانيا منذ حوالي ثلاثين سنة، أمضى خلالها زهرة شبابه في خدمة بلده ومواطنيه في هذا البلد الأوربي، رغم شح الوسائل وغياب الدعم والسند من دولته.
وانه مما يحز في النفس ويدمي القلب ويذهب الفؤاد ، وفي نفس الوقت يصيب بالقشعريرة والغثيان أن هذا الإنسان البسيط، الذي بالكاد يؤمن قوت عياله، استهلكته سفارتنا هناك على مدى الثلاثين سنة الماضية في تدبير ما عجزت هي عن حله من صميم عملها وشؤون جالية موريتانية كبيرة متشعبة المشاكل، ومع ذلك تضن عليه بمخصص مالي زهيد يعينه على تأمين ولو جزء يسير من تكاليف أعباء كبيرة يتحملها في سبيل مواصلة مهمة نبيلة، تحتاجها جاليتنا في اسبانيا، لا يقوى على تحملها الكثير ممن يرفع راية العمل الخيري، والتضحية من أجل الآخرين في أرض الوطن، فما بالك ببلاد الغربة البعيدة.
لقد رسخ لدي التعرف على تجربة هذا الإنسان النادر من خلال روايات أعضاء من الجالية الموريتانية في إقليم الأندلس، التقيتهم أثناء وجودي في تلك البلاد مؤخرا، القناعة بأن العبرة لم تكن أبدا بالألقاب والتسميات الفخمة الكبيرة ولبروتوكولات الجوفاء، بل هي بإلارادة الجادة والصدق مع النفس والذات، فتلك هي السفارة، التي تستحق أن توصف بأنها فوق العادة وكاملة المصداقية
الموضوع السابق
الموضوع الموالي