AMI

جامع شنقيط العتيق: معلمة تتحدى الزمن وقصص وحكايا لا تنفد

يعتبر الجامع العتيق لمدينة شنقيط التاريخية، أحد المعالم البارزة في المدينة، والتي تشدُّ الزائر والمستكشف والباحث على حدِّ السواء، فهو يمثل نموذجا معماريا فريدا يجمع بين البساطة والتناسق الهندسي الدقيق.

تأسس جامع شنقيط أول مرة سنة 160 للهجرة، في آبير (شنقيط القديمة) قبل أن يتم نقله في التأسيس الثاني إلى مكانه الحالي سنة 660 للهجرة، ويقول إمام الجامع العتيق حاليا فضيلة الشيخ أبَّه ولد عبدُ الله ولد أحمد محمود، أن المؤسسين الأوائل للمسجد أرادوا أن يكون بمساحة المسجد النبوي عند تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم له بمعية المهاجرين والأنصار.

* المئذنة

أول ما يلفت انتباه الداخل إلى فناء المسجد بل إلى حارته في عمق المدينة العتيقة، هو مئذنته ذات الشكل المستطيل، المنتصبة وسط المدينة القديمة والتي يوجد داخلها سُلّم مُلتفّ يؤدي إلى أعلاها، كما تحتوي جدرانها على فتحات للتهوية والإضاءة أضافت لمسات فنية زادت من جمالية شكلها الخارجي.

هذه المئذنة حينما يستوي الزائر فوق سطحها، سينبهر بدءا بمنظر المدينة الجميل من أعلى، كما سيشاهد عن قرب بيض النعام الموضوع فوق أعلى زوايا المئذنة الخمس، وسيندهش من تحول سطح المئذنة إلى سجل للزوار، يدوّنون فيه أسماءهم وعبارات الإعجاب بالمدينة والمسجد والمئذنة بأبرز لغات العالم، والبعض منهم يستودعونه الشهادتين.

وعند النزول من المئذنة وأنت تتجه إلى داخل المسجد ستجد “صخرة التوقيت”، وهي صخرة تحديد دخول وقتي صلاتي الظهر والعصر عن طريق الظل، وهو تقليد متوارث عند أهل شنقيط منذ تأسيس الجامع.

للمسجد العتيق بشنقيط خمسة أبواب يدخل المصلي من أي باب أراد، ويوجد هناك باب سادس يتوارى خلف المئذنة في أقصى اليمين، ويؤدي عبر ممر ضيق إلى المصلى الخاص بالنساء في الركن الجنوبي الغربي من المسجد، وتحيط بجدران المئذنة من مختلف الاتجاهات مئات القطع الصخرية التي نقشت عليها أسماء بعض من أبناء المدينة الذين قضوا خارجها، وهو تقليد دأب عليه أهل شنقيط منذ عصور سحيقة، وأصله أن أبناء المدينة قديما كان بعضهم يخرج في قوافل تجارية وعلمية إلى بلاد السودان وبلاد المغرب مثلا، ويمضون أشهرا وأعواما في تلك الرحلات، ويموت بعضهم بسبب الأوبئة والحِميات المنتشرة في تلك المناطق، فيعمد رفاقهم إلى نقش أسمائهم على قطع حجرية صغيرة والعودة بها إلى المسجد حتى يترحم عليهم أهل المدينة كلما زاروا مسجدهم ورأوا تلك القِطع، وهو ما حوَّل جدران مئذنة مسجد شنقيط إلى متحف مفتوح لأسماء مئات الراحلين من أبناء المدينة عبر الزمن.

لقد واجه مسجد شنقيط عبر تاريخه الطويل، كغيره من مباني المدينة التاريخية، عنف الطبيعة الصحراوية القاسي المتمثل في أمواج الرمال الزاحفة، وضرَب أهل شنقيط المثل في التصميم على مواجهة الطبيعة القاسية التي أجبرتهم على ترميم الجامع عام 1378 للهجرة، لكنهم أبقوه محتفظا بالأبعاد والتصاميم نفسها، وبالأساسات التي أسس عليها من أول يوم.

* روحانية يحسها الزائرون

يشعر الداخل إلى المسجد العتيق بشنقيط، بإحساس لا يوصف، تطبعه الروحانية التي يحسه الزائرون، وهي روحانية تعبق بأريج عصور الإسلام الأولى، حيث يرفض الشيوخ القائمون على المسجد تبليط أرضيته، ويحرصون على بقائها ترابية تلتصق حصاها بجبين المصلي، ويشم في حبات رملها رائحة تاريخ زكي عبق بالفخار والمكرمات.

لا توجد في جدران مسجد شنقيط نوافذ للتهوية أو الإضاءة، وبدلا من ذلك هناك نوافذ صغيرة مفتوحة في السقف تمد المسجد بالضوء والهواء خصوصا وقت الزوال، ولا تتعدى فتحة النافذة الواحدة 15 سم مربعا، ويتم إغلاق هذه النوافذ بقطع صخرية مصفحة تمنع تسرب الماء حين تنزل الأمطار.

أما سقف المسجد فهو كبقية المبنى، مصنوع من المواد التي تنتجها طبيعة مدينة شنقيط والبيئة المحلية؛ فالأعمدة الأفقية الحاملة للسقف هي من جذوع النخيل، وسعف النخيل هـو الـذي يشــكل الوجه الداخلي للسقف، في حين يغطي الطين السطح الخارجي للمسجد.

* بين يدي الإمام

حدثنا إمام الجامع العتيق بشنقيط الشيخ أبَّه ولد عبد الله ولد أحمد محمود، وقد أستند إلى إحدى أساطين المسجد وانغرست قدماه في أرضية المسجد الرملية الناعمة، إن أهل شنقيط تربوا، منذ بداية نشأة مدينتهم، على التمسك بمشهور المذهب المالكي (رواية عبد الرحمن ابن القاسم) وهو ما لمسناه خلال حضورنا لبعض الصلوات المكتوبة في الجامع، وعن تعجيل صلاة المغرب الذي عرف به أهل شنقيط حتى قيل إن بعض القوافل التي تمر على مدينتهم في سالف الزمن، كان أهلها يقولون لأهل شنقيط: “صلُّوا مغربكم يكانَّ نسدباو”، قال الشيخ الإمام إن ذلك التعجيل يستند لمشهور المذهب الآخذ بالحديث الصحيح الذي مضمونه، أن الشمس حين تغرب تجب الصلاة ويجوز فطر الصائم، مستطردا الكثير من الحكايات العلمية المفيدة والنكة الأدبية الطريفة في ذلك المجال، معرجا على ما يعرف عن أهل شنقيط من تطويل السورة في صلاتي الصبح والظهر، وتقصيرها في العصر والمغرب وتوسطها في العشاء، قائلا إنه تطبيق لمشهور المذهب المالكي الملخص في قول ابن عاشر:

تطويله صبحا وظهرا سورتين *** توسط العِشا وقصر الباقيين

وعن بعض الأمور المتعلقة بالصلاة التي عرفت عن أهل شنقيط، قال فضيلة الإمام الشيخ أبَّه، إن من تلك الأمور دعاء يقال بعد انتهاء المؤذن من آذان الصبح الأخير وسكوته لحظة، حتى لا يظن أنه جزء من الأذان، ولفظه:

“أصبح ولله الحمد، أصبح والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وشفيع المذنبين وسيد ولد آدم أجمعين.

أدبر الليل بظلامه وأقبل النهار بنوره ضيائه، ذلك سر من الأسرار ونقص من الأعمار فاعتبروا يا أولي الأبصار، الملك لله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار، لا إله إلا الله الواحد الجبار”.

وكذلك ما يعرف ب “التأهيب” وهي كلمات تقال بعد أذان الجمعة الأول ولفظها: “تأهبوا للصلاة يرحمكم الله” وتكرر ثلاث مرات، قبل أن يتلو المؤذن الآية: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنو صلوا عليه وسلموا تسليما.

ويؤكد الإمام، أن أهل شنقيط درجوا على إقامة عقود النكاح في المسجد بعد صلاة العصر، وهو أمر ما زال إلى اليوم، فقد تزامن وجودنا فيه مع عقد قران، وفي العصور القديمة كان قضاة شنقيط يحكمون في دور القضاء، لكن النطق بالأحكام يكون عادة في المسجد.

ختاما، وبعد مضي ما يقارب ثمانية قرون، على البعث الثاني لهذا الجامع العتيق، فإن أجيال شنقيط ما تزال تتوارث هذا الصرح الديني والتاريخي والتراثي، خلفا عن سلف، وتحرص على بقائه معلمة دينية، وتراثا إسلاميا وعربيا وإنسانيا باقيا في العقب إلى يوم الدين.

التبهاني ولد أمغر

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد