لايمكن للمتحدث عن تاريخ جول بل عن تاريخ الضفة بل عن تاريخ بلادنا بل عن تاريخ منطقة غرب إفريقيا بشكل عام، إلا أن يقف بإعجاب أمام ما مثلته مدارس الفلاح الإسلامية من دور حضاري مشهود ومن ريادة معرفية امتدت شمالا وجنوبا وغربا وشرقا، حيث تعتبر إحدى التجارب الرائدة في نشر علوم اللغة العربية و الثقافة الإسلامية بإفريقيا، فقد تأسست المدارس في العقدين الأخيرين من حقبة وجود الاستعمار الفرنسي بالمنطقة الغرب إفريقية مشكلة رافدا ثقافيا مغذيا لحركة التطلع لنفخ الروح في الثقافة الإسلامية التي تأثرت كثيرا بنشاط و جهود الاستعمار لطمس الهوية الإسلامية.
وتعود بداية تأسيس المدارس إلى سنة 1941 حين أسس رائد الفلاح العلامة الحاج محمود باه، رحمه الله باكورة هذه المدارس، لتعليم القرآن و علوم اللغة العربية بقريته “جول” وما لبثت تلك المدارس المباركة أن اتسع نشاطها باسطا اليد الدعوية في شبه المنطقة حتى وصل الفلاح عمق القارة الإفريقية، متجاوزا الجار القريب والصاحب بالجنب.
وخلال الفترة الأخيرة من الاستعمار الفرنسي للمنطقة، خضعت مدارس الفلاح لإدارة موحدة في عموم المنطقة وبعد استقلال دول المنطقة الذي جاء تباعا عام 1960م، كان لكل بلد من بلدان المنطقة مدارس فلاحه الخاصة به.
أمار رائد هذه المدارس، فهو العلامة الشيخ الحاج محمود باه، رحمه الله، الذي ولد حوالي عام 1905م في بلدة “جَوَلْ” جنوب شرق كيهيدي بولاية كوركل بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، في أسرة فلانية تعنى برعي الغنم، في مجتمع ينقسم على أساس المهنة والاهتمام، فسلك سبيل الرعي واستمرّ في تلك المهنة التي وجد عليها ذويه.
وفي مرحلة من طفوله قرّر ترك الرعي، والتوجّه إلى طلب العلم، فالتحق عام 1923م بحلقة الشيخ عمر جاه، حيث أمضى فيها أربع سنوات حفظ خلالها القرآن الكريم، ثمّ رجع إلى قريته (جوول) عام 1927م، ورحل للاستزادة من طلب العلم، إلى المِجْرِيَّة، دارسا عند المرابط عبد الفتاح التركزي، الذي أجازه في القرآن الكريم. ثم راودته فكرة الرحلة إلى مكة المكرمة؛ لمواصلة طلب العلم فوصلها بعد رحلة شاقة مشيا على الأقدام، حيث أخذ العلم من مصادر شتى.
عاد الحاج محمود باه، عام 1941م، حاملا معه مشروعه الإصلاحي، ومنهجه المدرسي الحديث، فأسس مدارس الفلاح الرائدة في التعليم الإسلامي العربي النّظامي.
احتضنت بلاد الشيخ الحاج محمود باه، موريتانيا أكبر عدد من مدارس الفلاح، وتلتها جارتها السينغال، ولكن الفلاح بسبب مجهود مؤسسها وجهاده، وصلت مالي والغابون والكاميرون والكونغو.
وفي عام 1978م، توفي الحاج محمود باه، في العاصمة نواكشوط ودفن في مسقط رأسه بجول، لتشهد تلك المدينة التاريخية بداية ذلك الرائد الوطني المصلح وبداية سطوع نجم مشروعه الحضاري الذي عم إشعاعه الخافقين، قبل أن يحتضنه ثراها الطاهر، رحمه الله وبارك في عقبه ونهجه المستقيم.
وقد التقت الوكالة الموريتانية للأنباء بعدد من تلامذة الشيخ، ليحدثوها عن هذا الشيخ الجليل.
ومن هؤلاء، الشيخ صو خاليدو، يعيش في منزله الرحب الذي تظلل الساحة التي تتوسطه الأشجار الباسقة، إلى الجنوب الشرقي من المسجد العتيق بقلب جول، وهو معلم متقاعد خدم في سلك التعليم الوطني، وهو من تلامذة الحاج محمود باه، المباشرين، استقبلنا في الوكالة الموريتانية للأنباء في بيته العامر بالترحاب، وحدثنا حديثا حلوا لا يملُّ عن مختلف مراحل حياة شيخه الحاج محمود باه، بادئا من قرار ذلك الشيخ المصيري بالتخلي عن رعي الغنم والتوجه إلى التعلم مستطردا دراسته للقرآن الكريم وحفظه له في أربع سنوات ثم توجهه إلى المجرية وتجكجه طلبا للعلم ورحلته الشاقة الطويلة من هناك إلى الديار المقدسة لزيارة سيد الأنام والطواف ببيت الله الحرام وأخذ العلم عن علماء تلك البلاد الأعلام، ثم عودته لوطنه معلما ناصحا ومرشدا واعظا، وقال الشيخ صو، إن الحاج محمود باه، عندما عاد لوطنه تعرض لمضايقات عديدة من المستعمر الفرنسي الذي اعتقله في سينلوي قبل أن يسلمه حاكم سينلوي إلى حاكم كيهيدي، وبعد الإفراج عنه عاد لقريته جول فجمع كل أهله وأقاربه في مكان قريب من ضفة النهر، وأفصح لهم عن رغبته في إقامة مشروع تعليمي وإصلاحي كبير فوافقوه في ذلك، وأمروه بالاستعانة بأترابه من أهل المنطقة فجمعهم ليلا في مكان قرب المقبرة، فرحبوا برأيه وأعلنوا دعمه في مشروعه الإسلامي الكبير، ومنذ تلك الليلة ولدت مدارس الفلاح الإسلامية التي سيكون لها عظيم الشأن، وكانت أول مدرسة فَلاحية في جول تحت ظل شجرة طلح وارفة.
ويواصل الشيخ صو خاليدو، سرده الشيق المفيد، لقصة شيخه، حيث يقول إنه بعد أن دخل أهل جول ومن حولهم في مدارس فلاحه أفواجا، بدأ يفكر في التوسع أكثر خارج حدود قريته، فسار إلى قرية “كِري” في الطريق بين جول وكيهيدي، فوعظ أهلها وأرشدهم لطريق الحق، فاعتنقوا الإسلام ورغبوا في إقامة مدرسة فيهم، وطلبوا من الشيخ أن يرسل لهم من يفقههم في أمر دينهم، فأرسل لهم أحد تلامذته يسمى حاميد، فكان معلمهم وإمامهم ومفتيهم.
وأردف الشيخ صو خاليدُو، أن مختلف مراحل حياة الشيخ الحاج محمود باه، كانت تشبه مراحل حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي طفولته رعى الغنم وهناك الكثير من الأحداث التي تشبه أحداثا وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، من جمعه لعشيرته الأقربين في دار أبي طالب ومنها بعثه لمصعب معلما لأهل يثرب.
وفي طرف جول إلى الشمال الغربي من ثانوية المدينة، استقبلنا بالترحاب في بيته العامر الشيخ عبدُ امبورم باه، وهو من تلامذة الحاج محمود باه، المباشرين و من من تعلموا في مدارس الفلاح، وقد ردد على مسامعنا بصوته الروحاني الصادق أكثر من مرة، أنه مدين بكل علمه الواسع لمدارس الفلاح ومؤسسها الحاج محمود باه، الذي لا يخفي تأثره البالغ به كلما ذكر اسمه واصفا إياه بالمجاهد الكبير والمصلح العظيم، متذكرا يوم جمع الناس في “بطحة سيدي” وبدأ يعلِّم الصبيان والشباب ويهديهم إلى منهج الحق والفلاح.
وقال الشيخ عبدُ امبورم باه، إنه شهد المشاهد الكبرى في جول مع الحاج محمود باه، وظل إلى جانبه إلى أن مرض وذهب للعلاج في نواكشوط، حيث توفي هناك وعاد جثمانه ليدفن في جول رحمه الله، قائلا إنه كان رجلا عالما قويا في الحق مصلحا أنقذ الله به الناس من الظلام إلى النور ومن العماية إلى الهداية.